لعبة غير عادلة

لعبة غير عادلة

04 يناير 2020

ملصق فيلم "لعبة عادلة"

+ الخط -
(1) 
عُرض أخيرا فيلم جديد بالنسبة لي، اسمه fair game (لعبة عادلة)، إنتاج عام 2010، وتدور أحداثه في المراحل السابقة واللاحقة لقرار الحرب الأميركية على العراق عام 2003. وهو عن واقعة حقيقية عن عميلة المخابرات الأميركية، فاليري، والتي تقوم بدورها الممثلة، ناعومي واتس، ومتزوجة من كاتب صحافي ليبرالي يؤدي دوره شون بين. كان الزوج (جو ويلسون) أكثر ميلا إلى الديمقراطيين ومعارضا لسياسات الرئيس جورج بوش في ذلك الوقت، وكان سفيرا سابقا للولايات المتحدة في العراق وعدة دول أفريقية، الأمر الذي كان يجعل النقاشات بينهما حادة، حيث إنها تعمل في المخابرات المركزية الأميركية التي لها دور كبير في الأحداث الكبرى في العالم. وفي سياق الأحداث، يرد تقرير إلى المخابرات عن شراء النظام العراقي أنابيب ألومنيوم تشبه التي يتم استخدامها في أجهزة الطرد المركزي في المفاعلات النووية، ويتم تكليف فاليري بتتبع تلك الصفقات، حيث هناك شكوك بشراء نظام صدام حسين اليورانيوم المخصّب. ومع اتصالاتها بمصادرها في العراق ودول عربية، لا تجد دليلا على إنتاج النظام العراقي أسلحة دمار شامل. وتبدأ المخابرات الأميركية في تكليف زوجها بالسفر إلى النيجر للسؤال عن صفقة بيع خاماتٍ قد تستخدم في إنتاج أسلحة نووية عراقية، ثم يعود الزوج ليخبرهم إن الصفقة بين العراق والنيجر توقفت منذ سنوات، بسبب الحرب في النيجر، وأن النظام العراقي لم يشتر أنابيب ومعدات الطرد المركزي من هناك. ولم ترضِ تلك التقارير التي تبرئ نظام صدام إدارة جورج بوش، فاستعان البيت الأبيض بضباط آخرين في المخابرات، يدعمون نظرية أن صدام يمتلك أسلحة دمار شامل ويهدّد جيرانه والعالم، وتم تنحية كل الضباط والموظفين الذين يرفضون غزو العراق، وتم اختلاق أدلة جديدة وقصص جديدة تدعم رواية جورج بوش إن صدام حسين نجح في صنع أسلحة دمار شامل. أما أغلبية الموظفين وضباط المخابرات الذين يعلمون الحقيقة والمتأكدين أن فرضية الرئيس الأميركي غير حقيقية فقد صمتوا ورفضوا الإدلاء بالحقيقة، خوفا على وظائفهم وامتيازاتهم.
تتصاعد الأحداث، ويكتب بطل الفيلم مقالات وينشرها ويلقي محاضرات لفضح أكاذيب الإدارة الأميركية، فيتم إيقاف زوجته عن العمل، خصوصا أن تقاريرها أفادت بعدم التأكد من استئناف النظام العراقي البرنامج النووي أو امتلاك أسلحة دمار شامل، بل ويتم تسريب معلومات إلى
الصحف تكشف هويتها، ضابطة مخابرات مسؤولة عن عمليات سرّية، ما تسبب في تعريضها لمشكلات مع معارفها، وفي مضايقاتٍ كثيرة لأسرتها، كما تمت التضحية بكل مصادرها في عدة دول، وتم تركهم عرضة للتصفية والانتقام، خصوصا في العراق. أما زوجها الكاتب والسفير السابق فقد اتهمته وسائل الإعلام الموالية للجمهوريين وللإدارة الأميركية بأنه شيوعي، يدعم صدّام حسين والإرهاب، وتعرض لتهديداتٍ كثيرة من المتعصبين واليمين الأميركي المتطرّف.
ومع مرور الوقت، يتضح للعالم كله كذب إدارة جورج بوش والمحافظين الجدد وحماقتهم، ويبدأ الكونغرس بالتحقيق في ما فعلته تلك الإدارة من خداع ومراوغة، حتى تستطيع أن تخترع الذرائع وتسوقها للشعب الأميركي ثم للعالم، ويتم إدانة أسماء كثيرة دفعت نحو غزو العراق، تلك الحرب التي لا يزال العالم كله يعاني من تبعاتها وكوارثها.
(2)
من ملاحظات أثارها ذلك الفيلم لدي أنه لم يتم التنكيل بالضابطة ولا بزوجها، على الرغم من شهادتها ضد رئيس الولايات المتحدة، ولم يتم التنكيل بزوجها الذي ناهض قرار الحرب وهاجمه بشدة. حسب سيناريو الفيلم، ربما حدثت بعض المضايقات لهما وهجومٍ من وسائل إعلام محسوبة على الجمهوريين، ربما حدثت مضايقات من مواطنين متعصبين من أنصار نظرية سيادة الرجل الأبيض. ولكن مقارنة بما يحدث في بلادنا لم يحدث لهما شيء، لم يتم القبض عليهما، ولا حبسهما احتياطيا سنوات بتهمة نشر أخبار كاذبة، ولم تتم محاكمتهما بتهمة إهانة الرئيس الأميركي، ولم يتم خطفهما وإخفاؤهما قسريا وجلبهما في أحد مقار التحقيقات الفيدرالية (إف بي آي)، بل أصبحا بطلين في نظر قطاع كبير من الشعب الأميركي وقتها، وزادت شهرتهما بعد انتهاء مدة الرئيس جورج بوش. كما حددّ الكونغرس جلسة استماع وإجراء تحقيق بشأن ما حدث من نشر معلومات كاذبة لدفع الولايات المتحدة إلى غزو العراق، وتمت إدانة مسؤولين وضباط مخابرات عديدين في عهد جورج بوش الابن.
(3)
كان غزو العراق واحتلاله كارثة كبرى على المنطقة العربية، فعلى الرغم مما فعله صدام حسين من جرائم وكوارث، إلا أن ذلك الغزو المشؤوم كان جريمة أكبر، فمنذ حدث والفوضى 
تدبّ في المنطقة، بل إن ما يحدث اليوم من صعود للتنظيمات الجهادية هو نتيجة له، وليس نتيجة الربيع العربي، كما تحاول أبواق أنظمةٍ عربية إيهامنا. ولعلنا نتذكّر أن مكونا جهاديا إسلاميا سنّيا أساسيا كان في المقاومة العراقية الغزو الأميركي. ولعلنا نتذكّر أن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) قد تأسس على يد أبو بكر البغدادي، تلميذ أبو مصعب الزرقاوي زعيم تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، والذي كان مسؤولا عن تنفيذ عمليات كثيرة في العراق ضد القوات الأميركية حتى عام 2006. ولعلنا نتذكر أن بقايا الجيش العراقي الذي حله المحتل الأميركي، والعشائر السنية، كان لهما دور كبير في دعم صعود "داعش" في العراق، انتقاما من ممارسات الحكومات العراقية المتوالية المدعومة من إيران. وهناك تقارير عن دور عزت الدوري، الأمين العام لحزب البعث بعد إعدام صدّام حسين، في دعم ظهور "داعش" في المناطق السنيّة في العراق.
يجري في بلادنا ترويج خرافات وأكاذيب كثيرة في الإعلام الموالي، مثل أن "داعش" صناعة غربية بشكل مباشر، وأن ما قد حدث من عملياتٍ عسكريةٍ من قوى غربية ضد التنظيم، أو ما يحدث من عمليات إرهابية في الداخل الأوروبي هو مجرّد تمثيل واتفاق مسبق بين "داعش" والقوى الغربية. ومن تلك الخرافات ما تم ترويجه من أكاذيب وأساطير عن المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، محمد البرادعي، والذي كان مسؤولا، بصفته موظفا رفيعا في الأمم المتحدة، بالإشراف على التفتيش على المنشآت النووية العراقية، وكان تقريره، في نهاية الأمر، أن النظام العراقي لم يكن متعاونا، ولكن لم يثبت وجود أسلحة دمار شامل في العراق.
(4)
في مقارنة بالفيلم مرة أخرى، كانت الإدارة الأميركية تزعم أن مصادرها سرّية في المعلومات
عن امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، ورفضوا توضيح مصدر أي معلومةٍ روّجوها. ويذكّر ذلك بالاتهامات والتحقيقات الهزلية التي نراها عند حبس نشطاء سياسيين معارضين في بلادنا، تسمع قصصا خيالية غير منطقية عن مؤامرات ومخطّطات. وعندما يُسأل دفاع المتهمين عن مصدر تلك القصص، تكون إجابته إنها سرّية، ولا يجوز الإفصاح عنها.
ومقارنة أخرى في كيفية اختراع أكذوبة، حتى يتم تصديقها واتخاذ إجراءاتٍ مكلفةٍ ومؤلمة، بناء على أكاذيب ملفّقة، فإدارة جورج بوش اخترعت أكذوبة أسلحة الدمار الشامل في العراق، وضرورة حماية العالم منها، بغرض غزو العراق والاستيلاء على ثرواته. وفي أوطاننا العربية، تم اختراق قصص وهمية وأكاذيب عما يطلق عليها حروب الجيل الرابع ومخططات تقسيم الشرق الأوسط ومخطّطات تدمير الجيوش العربية. اخترعوا تلك الأساطير وصدّقوها وجيّشوا كل إمكانات الدول من أجل مواجهتها، على الرغم من أن هذا الغرب المتآمر وإسرائيل المتآمرة أصبحوا حلفاء الأنظمة والجيوش العربية في السر والعلن.
ولكن يبدو أن شعار "اكذب حتى يصدّقوك" الذي يُنسب لجوزيف غوبلز، وزير الدعاية السياسية في عهد هتلر، هو المفضل لدى الحكومات في الشرق والغرب، مهما ادّعت الخيرية في العلن.
DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017