طباخ الريّس أو عمرو أديب

طباخ الريّس أو عمرو أديب

26 يناير 2020
+ الخط -
أدري أن "لكل زمان دولة ورجالًا"، غير أني أتحفظ على مصطلح "الرجال"، إذا كان الزمن هو زمن الخيبات السائد حاليًّا.
بلا مقدّمات، أتحدّث هنا عن زمن "الرجل" عمرو أديب، الذي يتسيّد الآن المشهد الإعلامي المصري، في زمن عبد الفتاح السيسي بالطبع. أتحدّث عن "رجل" جعلوه نجمًا بـ"الكندرة"، لا لشيءٍ سوى لأنه قاد انقلابًا إعلاميًّا مؤازرًا انقلاب السيسي العسكري الذي جعل منه أديب "رمزًا وطنيًّا"، ويسوعًا "مخلّصًا" ومنقذًا لمصر من براثن "الديمقراطية" ومخالب صناديق الاقتراع التي أوصلت سلفه محمد مرسي إلى الحكم.
ولكن للحق والتاريخ، كان عمرو أديب بارعًا في أداء دور الطبّال والزمّار، و"البسطار" أيضًا إذا دعت الحاجة، فهو يعرف جيدًا متى "يردح" ويولول، حين يتعلق الأمر بشتم المعارضين وتحقيرهم، مثلما يعرف متى يصبح زاحفةً متمسّحة بالأقدام، حين يتحوّل الحديث إلى أفضال الانقلاب والانقلابيين، ومن ساندهم في أبوظبي والرياض. وبالطبع، كان لا بدّ من تكريمه، في نهاية المطاف، بمنحه برنامجًا خاصًّا في قنوات المؤامرات الممولة بأموال الإمارات؛ ليكمل من على شاشاتها دوره القذر في النفاق والردح الفجّ، خصوصًا ضد الإخوان المسلمين وقطر و"الجزيرة" وتركيا.
ولأن لكل دور خاتمة، فقد ارتأى "الرجل"، عمرو أديب، بعد أن شعر أنه موشكٌ على استنفاد مخزونه من "اللعلعة" و"الهرطقة"، أنه آن أوان التجديد والتحديث، ليبدأ مرحلةً جديدةً عنوانها "المطابخ". كان "الرجل" معجبًا على ما يبدو بفكرة فيلم "طبّاخ الريّس"، على الرغم من اختلاف المضمون، فهو مؤمنٌ بأنه كان يؤدي دور الطبّاخ السياسي لرئيسه، بما كان يعدّه من وجبات النفاق والتزلّف وقلب الحقائق التي تشبه قلب طنجرة المقلوبة، وكان بارعًا في اختراع خلطات جديدة من مواد متنافرة، ليس أقلها مزيج السردين والبطيخ الذي ابتكره؛ ليقنع المشاهدين أن انقلاب رئيسه هو يوم من "أيام الله"، على غرار ما أفتى به طبّاخ ملتح آخر هو سماجة الشيخ علي جمعة... والحال أن السيسي، مدّ الله ظله، حظي برهطٍ من الطبّاخين الذين لم يحلم بهم طاغيةٌ يومًا، طباخين إعلاميين ودينيين واقتصاديين واجتماعيين ورياضيين، وفنانين أيضًا، حتى ليظن المرء أن الساحة المصرية لم تكن يومًا إلا "مطبخًا" ينتظر انقلابًا، لتنقلب بعدها الحقائق كلها، وتصبح طبق "فول مدمّس".
المهم، أصبح "الرجل" عمرو أديب مولعًا بدخول المطابخ، وراح يستضيف، ما بين حلقة ردح ونفاق، معلمي طبخ وندُلًا، حيث تفرد أصنافا متعدّدة من الأطباق أمامه، وما عليه هو غير أن يتقافز كالسعدان بين الأطباق، فيتذوّق من هذا الطبق أو ذاك، أو يناول لقمةً لضيف البرنامج، الذي عادة ما يكون ممثلًا أو مطربًا، ويطلب منه أن يُبدي رأيه بما تذوّقه. وفي ختام البرنامج يتلقى المعلمون والندل تهنئة عمرو أديب، لقاء ما حشوا به معدته من لذائذ الطعام وأصنافه.
قيل قديمًا إن الحرب ما هي إلا امتداد للسياسة بطرق أخرى، ويُقال حديثًا إن الطبخ ما هو إلا امتداد للسياسة أيضًا، خصوصًا إذا كانت سياساتٍ مائعة، يراد منها إقناع الشعوب العربية أنها لا تستحق الحرية والعدالة وثورات الربيع. أما الحرب فلا مكان لها على جبهة المحتل الصهيوني، بل على الأراضي العربية وحدها، التي لم تزل مخدوعةً بهذه "الخزعبلات". وعندها لا بأس من تجريد الحملات العسكرية وإعلان النفير العام، على غرار ما جرّده حلف المؤامرات ضد ليبيا واليمن، مثلًا، ولا أفضل عندها من الاستعانة بخبرات طبّاخين مهرة، قادرين على تسويغ هذه الحملات، وإسباغ الشرعيات الشعبية عليها، كعمرو أديب وسواه، الذي يستطيع التقافز على كل الحبال، وبين كل الأطباق والطناجر، بعد أن أصبح "نجم المطابخ" بلا منازع.
عمومًا، ربما كان "لكل زمانٍ دولة ومطابخ"، غير أنني على قناعةٍ أن زمن "الطباخ" عمرو أديب و"ريّسه"، هو أردأ الأزمنة العربية بلا منازع.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.