الثورات ليست "معقّمة".. لأنها حيّة

الثورات ليست "معقّمة".. لأنها حيّة

21 يناير 2020
+ الخط -
ليس في التاريخ، ثورات معقمة أو نقية. من صفات الثورات أنها تشبه المرجل الذي يغلي فتختلط محتوياته ويطفو الزبد على وجهه، وفي التاريخ أيضًا شواهد كثيرة على الأطراف المتربصة ببعضها بعضا التي تقنص فرصة اندلاع الانتفاضات أو الثورات في إحداها لتنقضّ عليها، وتفعل فعلها بما يخدم تطلعاتها وأجنداتها، وهذه هي المؤامرة القديمة قدم الاستقرار والملكية في تاريخ البشرية. كذلك فإن في حوزة التاريخ مدونات كثيرة عن ثوراتٍ اندلعت وعمّت معها الفوضى البلاد التي اندلعت فيها، بسببٍ بسيط، أن الثورات لا تقدح بقرار حتى لو كان هناك من يملك أعواد الثقاب والزيت القادر على الاشتعال، لأن النار لا تهبّ إلاّ في الهشيم، فالثورات ليست أنيقة، ولا تهتم بالبريستيج، هي ثورة غضبٍ تندلع عند الوصول إلى لحظة الانفجار، فمهما احتملت الشعوب لا يمكنها أن تراكم في أعماقها الظلم والتضييق على حياتها وقتل أحلامها وطموحها ونهبها واعتقال إرادتها في صنع حياتها ومستقبلها، كما لا يمكنها العيش في قوالب ضاقت عليها فتهب لتحطيمها.
ما يظهر للمتابع، بعد ما يزيد على الثلاثة أشهر على الحراك الشعبي اللبناني، أن هناك 
متناقضات ومتضادات وتصرّفات غوغائية كثيرة، خصوصا في الأيام الأخيرة، في وقتٍ لا يمكن لأحد أن ينكر على الشعب ثورته ضد الطبقة السياسية الحالية والركود الذي زجّت البلاد فيه بعد ثلاثين عامًا من انتهاء الحرب الأهلية ومؤتمر الطائف الذي كرس المحاصصة الطائفية في الحكم وتقاسم البلاد.
تصاعد التوتر والمواجهات العنفية بين المتظاهرين وقوى الأمن الذي يصفه بعض المراسلين استخداما مُفرطا للقوة في مواجهة المتظاهرين، أي خراطيم المياه والقنابل المسيلة للدموع، والرصاص المطاطي الذي أصاب العشرات. في المقابل، كان المتظاهرون يرشقون عناصر قوى الأمن بالحجارة، ويرمون باتجاههم ما وصلت إليه أيديهم من قطع حديدية وحواجز وجدوها في طريقهم أو حوامل الإشارات المرورية، فوقعت عشرات الإصابات بين عناصر قوى الأمن، ما دفع رئيس الجمهورية، العماد ميشال عون، إلى أن يوجّه كلمة إلى قادة الجيش وقادة قوى الأمن يطالبهم فيها بالحفاظ على السلم وحماية الممتلكات العامة، في وقتٍ تستعصي فيه ولادة حكومة تهدئ الشارع، لأن الطبقة السياسية النافذة في لبنان ما زالت لا تريد الاعتراف بأن الوضع العام في أقصى درجات الخطورة، فالانهيار الاقتصادي الذي يتكلم عنه حتى السياسيون أنفسهم كل بمفرده، لا يحتمل أي تأخيرٍ في التدبّر حوله كي لا يحدث الانهيار المدوّي، كما أنهم ربما ما زالوا يراهنون في سرّهم على تعب المتظاهرين ويأسهم من إمكانية التغيير بالطريقة التي يريدونها، أو بمستوى الشعارات التي ترفع المطالب إلى الدرجة 
القصوى، غافلين عن حقيقة ساطعة، أن هذه الانتفاضة ترنو إلى أن تنضج وتصبح ثورة حقيقية. وفي الواقع، ينضج الحراك اللبناني، على الرغم من كل محاولات إفشاله وتشويهه وحرفه عن أهدافه، فهؤلاء الشباب الذين يحتلون الساحات والشوارع منذ أكثر من ثلاثة أشهر ما زالوا ينظمون الندوات والجلسات الحوارية والتثقيفية والاستشارية حول كل القضايا الراهنة، وتلك التي سبقتها وأدت إليها، وما زالوا يقظين منتبهين إلى حراكهم، ويحاولون تصحيح الخلل كلما وقع شيء منه.
ليس التأخير من صالح الطبقة السياسية الحاكمة، فكل يومٍ يزداد غضب الشارع ويزداد زخم المتظاهرين وعددهم. ومع كل يوم، تفتح ملفات جديدة لتصبح الملفات التي تواجه هذه الطبقة وحدها كفيلة بإطاحة جبروت أي نظام متحالفةٍ مع إصرار الشارع ومتابعة حراكه ومطالبه، وازدياد تدهور الوضع المعيشي وحالة البلاد. في الوقت نفسه، نلاحظ أن بين المحتجين هناك شريحة من الشعب تريد التغيير، وتطالب به، إنما من دون المساس بزعاماتها، أو بحصص جماعاتها، وهم يجاهرون بالخطوط الحمراء التي يتمسّكون بها، كما يرفضون الطرح الذي يمس بتلك الثوابت، حتى لو كان يلبي رغبة الشارع المنتفض. لا يمكن تصنيف هؤلاء الأشخاص جميعًا تحت بند واحد، بأنهم بيادق يستعملها زعماء الطوائف ورموز الطبقة الحاكمة القائمة على المحاصصة من أجل إفشال الحراك، والحفاظ على المكتسبات التي أبلوا باستخدامها حدّ وقوع البلوى على البلاد والعباد، وليسوا في المجمل مندسّين، التسمية التي تجيدها الأنظمة، حتى الرئيس الفرنسي، ماكرون، استخدمها في ذروة تظاهراتٍ أصحاب السترات الصفراء، فبينهم بالفعل عدد ليس قليلاً ممن لم يستطيعوا تبنّي وعي بالمواطنة الحقيقية، وما زالوا يلتحفون بعباءة النظام الفكرية الذي كرّس منظومة الجماعات والطوائف والزعماء. وعلى أساسه، سار 
لبنان كل هذه العقود إلى أن استشرى الفساد حدّ انهيار الاقتصاد وانهيار حياة الأفراد معه. من الملاحظات التي تستدعي التوقف عندها هذه الحالة التي طالما عاشها وعانى منها الشعب السوري، في قسم كبير منه. وكانت سببًا متينًا من أسباب فشل حراكه، بالإضافة إلى العنف الذي استخدم بقوة يمكن وصفها هنا بجدارة بأنها مُفرطة حدّ القتل بطرق متنوّعة، فكرة الشخصنة والزعامة والحاجة دائمًا إلى من يمثلها، وهذا يدلّ على تمكّن ثقافة متمكّنة من العقل العربي ساهمت في تمكينها على مدى قرون طبيعة أنظمة الحكم، وتمكّن رجال الدين من المجال العام.
صحيحٌ أن فكرة الزعيم أو القائد أو الملهم موجودة لدى شعوب الأرض، لكن الشعوب التي مرّت بتجارب تاريخية جبارة ومريرة، استفادت من تجاربها، ونسّقت الثقافة التي ساهمت في كبواتها وانهياراتها، فنهضت بوعي جديد، وكرّست القيم الملائمة لحياة البشر، وقيام الدول على أسس ديمقراطية وعقود اجتماعية بين الفرد والدولة، يكون للمواطن فيها مساحة كبيرة تُصان من خلالها حقوقه، وتمدّه بالشعور بالانتماء إلى دولته من خلال الدستور الذي ساهم في وضعه، فيشعر بكرامته المصون وإنسانيته المقبلة على الحياة. وبالتالي، فإنه يتمسّك بدوره في الإنتاج والبناء، وليس بحاجةٍ إلى زعيم أو ملهم أو قائد، حتى ممثلوه في البرلمانات يسحب الثقة منهم، ويحاسبهم فيما لو قصّروا. فأين القصور وأين التقصير فيما نحن عليه الآن؟ وهل من المناسب طرح الأسئلة في اللحظة الراهنة؟ كيف يمكن تحرير هذا العقل؟ وهل من الضروري والملحّ إعادة النظر في بنيته الراهنة، خصوصا بما تكشف من واقعه على وقع الانتفاضات الشعبية وما آلت إليه؟
لم تعقد الأنظمة السياسية العربية النية، ولم تعمل، في العقود الأخيرة، على تغيير منظومة المفاهيم، لأن مصالحها كانت تحتاج إلى الواقع المتوارث الذي ثارت الشعوب من أجله والذي يضمن استقرار الحكم القبلي والسياسي، بسبب الثقافة الاجتماعية والسياسية المتراكمة، والأعراف والقيم التي تجاوزها الزمن. والنظام اللبناني ليس خارج قوس، وما زال يكابر ويعرقل حتى تشكيل حكومةٍ باتت مطلبًا إسعافيًا، بسبب المحاصصة عينها.
هذه الشعوب العربية التي تثور تمتلك كل المقومات التي تساعدها على تعلم إنتاج المعرفة من الحضارة والتاريخ والمال والثروات والموقع الجيوسياسي، فمن حقها أن تستلم قيادة نفسها وترتب حاضرها وتبني لمستقبلها، وإذا تحرّكت بإرادة وعزيمة فلن تقف قوة في وجهها، مهما بلغت من جبروت، على الطبقة السياسية أن تفهم هذه البديهية وتقرّها، وعلى الحراك أن يبقى يقظًا ومنتبهًا للتجاوزات والتصرّفات التي تخدش صدقيته، عليهم أن يصونوا اللحظة التاريخية التي بين أيديهم وألا يفرطوا بها، فالإنجاز العظيم الذي أنجز هو تفتيت البنية الصلدة لتلك الأنظمة، ولم يعد لديها ما تحاجج به، أو تحتمي لتبرّر فسادها وهدرها مقدّرات شعوبها.