على حدودنا دمية

على حدودنا دمية

08 سبتمبر 2019
+ الخط -
أن تستبدل جنديًّا بدمية، فذلك يعني أحد أمرين: استخفاف مهول بالخصم، أو محاولة لخداعه، على اعتبار أن "الحرب خدعة"، فأيّ الأمرين كانت تتحرّاه إسرائيل بوضعها دمية جنديّ من جنودها في سيارة جيب عسكرية على حدود فلسطين مع لبنان، وفق ما التقطته عدسة أحد المصوّرين أخيرا، ويظهر فيه الجيب العسكري ودمية الجندي المسمّرة في الكرسي الأمامي التي كانت تبدو في أقصى حدود الرقابة واليقظة؟
لا أخفي أن واقعة الدمية استوقفتني، كثيرًا، ولولا أنني على يقينٍ بأن زمن مسرح الدمى قد ولّى، وتحديدًا على الحدود العربية "الإسرائيلية"، لظننت أنني أعيش فصلًا من حكايات ذلك الزمن، غير أنني على قناعةٍ بأن هذه الواقعة تحمل في طياتها حربًا نفسية من نوع جديد، موجهةً إلى الشعوب العربية بالطبع، وليس إلى حكامٍ كالدمى، أو دمى كالحكام إن تحرّينا الدقة.
يبدو واضحًا أن إسرائيل تحرّت من دميتها العسكرية تحقيق الهدفين السابقين، معًا، ففي الأول أرادت أن توصل رسالة إلى الخصم، قوامها الاستخفاف به، ولن يجادلها في ذلك أحد، ذلك أن فكرة الخصم بالنسبة لها لم تعد واقعية أو حقيقية، بعد أن أصبح معظم الخصوم العرب حلفاء عضويين لها، من جهة. والبقية الباقية منهم لم يعودوا خصومًا يُحملون على محمل الجدّ، بل هم أضعف من أن تكلّف نفسها عناء حشد جيوشها على الحدود ضدّهم، وإعلان حالات الطوارئ في أجهزتها العسكرية واستدعاء الاحتياط، وجعلهم في حالات استعدادٍ قصوى، على غرار ما كان عليه العهد في غابر الأيام. صار يكفي، في هذه الأيام، أن تتولى الدمى مثل هذه المهام العسكرية؛ لأنها في النهاية "دمى قوية" بوصفها تابعةً لدولة قوية، وستلعب دور الفزّاعات بإتقان، ما دام ثمّة خصوم على استعدادٍ لتصديق الدمى أزيد من الحقيقة، بدليل أن من يحكمهم في الأساس دمى تحقنهم بالأكاذيب والخرافات حدّ التخمة.
وأما بالنسبة إلى الهدف الإسرائيلي الآخر، المتعلّق بالخداع، فصحيح أيضًا، على قاعدة أن الشعوب العربية باتت على يقينٍ أن "الحرب خدعة"، خصوصًا ما يتعلق بحروبها مع إسرائيل، ففي قناعتها، اليوم، أنها تعرّضت لخداع تاريخيّ كبير بشأن تلك الحروب التي خسرتها جميعًا، في ظرف ساعاتٍ وأيام، بفضل "الدمى الكبيرة" أيضًا التي أشبعتها شعارات برّاقة عن "الحروب المصيرية"، وأمهات المعارك، وضرورة تغليب أصوات الرصاص على نداءات الحرية والديمقراطية، ثم اكتشفت، في النهاية، أنها لم تكن غير "دمى" مخدوعة في حروب الخداع، ووقودًا رخيصًا لم يكن يشتعل إلا للتمهيد لصفقات استسلام معيبة.
في الحالتين، كانت الدمية الصهيونية حاضرة. الأولى قديمة جديدة ما تزال تعتلي كراسي الحكم في أوطاننا، وأعني بها الحكّام، والأخرى جديدة قديمة، تتمترس وراء الحدود، لتحميها من شعوبٍ أدمنت الخوف من "الدمى"، بصرف النظر عن أدوارها، وأعني بها إسرائيل.
على ذلك، لا أدري أيّ نوع من السخرية يدفعني، الآن، إلى الطلب من الشعوب العربية أن تخوض معركة مصيريّة جديدة، ولتكن "أمّ المعارك"، قوامها السعي إلى إقناع إسرائيل بضرورة "احترام الخصم" على الأقل، وعدم الاستخفاف به إلى هذا الحدّ، وأخذه ولو يومًا واحدًا على محمل الجدّ، بعيدًا من دمى الخليج والنيل، ولتكن مناشدةً دوليّة إذا لزم الأمر، فنحن نستحق أن نواجه خصمًا حقيقيًّا لا مجرّد دميةٍ تجرّدنا من أيّ لذة للانتصار إذا تحقق، وتعفينا من سخرية العالم إذا هزمتنا الدمية، وهو ما فعلته أزيد من قرن.
أما الحرب الأخرى التي يتعيّن أن تخوضها شعوبنا، فموجهة إلى دمى الداخل؛ إذ عليها أن تؤمن فعلًا أن من يحكمها محض دمى، لا أزيد من ذلك، بدليل أنها سرعان ما تتساقط وتتقطّع خيوطها التي تحرّكها من الخارج، عند أدنى هبّة شعبية حقيقية.
وقبل هذا وذاك.. علينا أن نغادر مسرح الدمى الذي تغلغل في أعماقنا، حتى جعلنا على يقين بأن في وسع الدمى أن تهزمنا.

دلالات

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.