"جريمة" الاختلاف .. عنف منزلي لا "شرف"

"جريمة" الاختلاف .. عنف منزلي لا "شرف"

06 سبتمبر 2019
+ الخط -
ارتكبت إسراء الغريب الجريمة العظمى. لم تمارس الجنس خارج الزواج، كما هو معهود في تبريرات مرتكبي ما تسمى جرائم "الشرف"، بل ارتكبت ما هو أفظع. تحدّت النظام القبلي، أبرز ركائن السلطوية في مجتمعاتنا العربية، من حيث لا تدري. شاءت مساوئ المصادفات أن تولد الفتاة في بيئة قبلية رجعية. ليس هنالك أي دليل على أن الفتاة كان لديها نيات تمرّد، بل كل ما في الأمر أنها أرادت نمط حياة مختلفا، أن تحتفل بشبابها وجمالها بأن تصبح خبيرة بعالم الجمال ومكوناته، وهي خبيرة الماكياج المعروفة في محيطها، وأن تحتفي بأنوثتها وشبابها كما يستحقان. 
من حيث لا تدري، ارتكبت إسراء فعلا سياسيا بامتياز، إذ تحدّت النظام البطريركي في عقر داره، وهي ابنة القبيلة النافذة، ولم تقوَ السلطة الفلسطينية، التي تنادي بشعارات الحرية من المحتل الاسرائيلي، على حمايتها، وكذا إدارة المستشفى. سوريالي مشهد القتل.
لم تحدث قضية إسراء في الإطار التقليدي لما تسمى جرائم "الشرف"، أي ارتكاب الضحية "تجاوزا" مزعوما خطيرا لتقاليد العائلة والقبيلة، مثل ارتكاب "جريمة" الجنس خارج الزواج، وهو أمر متاح ومرحب به لرجال القبيلة. ارتكبت إسراء الجريمة العظمى، إذ أثارت غيرة بنات القبيلة، بعدما رفضت ما اعتدن الرضوخ له. كل ما أرادته إسراء أن تعيش حياة بنات جيلها، وأن تتمتع بحرية بنات الغرب في الاحتفاء بجمالهن وشبابهن. كيف استطاعت أن تتحدّى النظام المتعارف عليه بأنه القدر المحتوم، وتعلن جمالها وشبابها وتوقها للسعادة على وسائل التواصل الاجتماعي على مرأى ومسمع بنات العم المستسلمات للقبيلة والمقتنعات بمصيرهن الباهت؟
من حيث لا تدري، ارتكبت إسراء فعلا سياسيا يوازي التعبيرات اليومية لهذه الثورات الفردية للربيع المتجدّد، والتي لا يمكن تفسيرها سوى بإصرار هؤلاء الهامشيين الضعفاء على تحدّي السلطة، باعتبار الفعل تحدّي الحياة مقابل الموت المعنوي قبل المادي. تأخذ هذه الثورات الصغيرة للضعفاء معنى رمزيا مهما، فهي ليست ثوراتٍ أطلقها مناضلون معروفون في شبكات التضامن الواسعة، بل أفراد معزولون، كل ما أرادوه أن تكون لهم حياة أخرى ممكنة، استخدموا الإعلام الحديث، وانتصر لهم هذا الإعلام للدفاع عن مصائرهم. تقول بنات العم اللواتي لم تتمكّن من ولوج عالم الثورات الفردية: من أين لهذه الوقحة إسراء أن تتجاوز الخوف، وواجب أن تخضع لتقاليد القبيلة كما مثيلاتها؟ ما الذي أوحى لها بأنها تستطيع أن تتجاوز قيود القبيلة، لتصبح رقما مميزا يتحدّى المتعارف عليه؟
سوف تلاحقنا صرخات إسراء على فراش الموت، ويد القتلة تمعن فيها تعذيبا، في حين اتفق
 المجتمع حولها على الاكتفاء بالفرجة. ليست إسراء ضحية العنف الجنسي للحروب الذي باتت فصوله مدعاة لاهتمام الإعلام العالمي. كما أن قضيتها لا تقدّم أي قصة خارجة عن المألوف، إذ تقول الرواية إنها خرجت مع خطيبها، والتقطا صوراً لهما، ونشراها على وسائط التواصل الاجتماعي. ليس في ذلك ما يستحق العناوين العريضة في الصحافة الصفراء سوى أن الصور استثارت غيرة بنات العم اللواتي أطلقن العنان للسان النميمة، فبات على رجال العائلة أن يسلكوا الخيار الأصعب، عبر القضاء على مصدر النقمة. لم يكن الخيار صعبا، على ما يبدو، إذ لم تحظ الضحية بأي حماية.
إسراء ضحية من بين ضحايا عاديات لا يرى المجتمع أي ضرورة للاعتراف بمعاناتهن. هؤلاء هن ضحايا العنف المنزلي اللواتي يعاقبهن رجال الأسرة/ القبيلة ونساؤها على التمرّد على قواعد اللعبة عبر ممارسة الحق بالاختلاف. قد يكون ذلك عبر التبرّج أو ارتداء ما يعتبر إغراء جنسيا، أو المطالبة بنمط حياة أكثر تحرّرا، عبر الخروج مع الخطيب أو الحبيب علنا. تختلف وطأة "التأديب" من الصفع إلى الضرب إلى كسر العمود الفقري إلى القتل. لا تثير عملية معاقبة المتمرّدات أي اكتراثٍ من محيطهن، باعتباره فعلا عاديا. هل سمع الجيران صراخ إسراء، وهي التي تعرّضت "للتأديب" مرارا؟
لا تندرج قضية إسراء في خانة ما تسمى "جرائم الشرف"، بقدر ما تبدو قضية عنف منزلي متواصل، تطور إلى عملية قتل. ارتكب القتلة جريمتهم، وتنفسوا الصعداء من عناء "تأديب" إسراء. غسلوا أيديهم من دمها، وعادوا إلى حياتهم اليومية في سكينة. غيرها كثيرات يتعرّضن يوميا للعنف نفسه، بدعم من المجتمع حولهن رجالا ونساء. المهم أن تساهم الجريمة المروّعة لقتل إسراء في رفع الغطاء عن عمليات القتل اليومي هذه التي لا يريد أحدٌ أن يراها، وأن تقدم اعترافا بشجاعة المتمرّدات في النضال من أجل حياة أخرى على أنه فعل مقاومة بامتياز.
A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.