من يجرؤ؟

من يجرؤ؟

05 مارس 2024
+ الخط -

قال الممثل البلجيكي، آرييه فورتالتير، في كلمته لمناسبة منحه جائزة أفضل ممثل في حفل سيراز للسينما الفرنسية الذي أقيم الشهرالماضي (فبراير/ شباط) في باريس: ليس الأمر أننا لا نجرؤ على الكلام لأن الوضع صعب. الحقيقة أن الوضع صعب لأننا لا نجرؤ على الكلام، داعيا إلى وقف إطلاق نار في غزّة. وضع الممثل اليهودي الإصبع على الجُرح: من يجرُؤ على إدانة حرب الإبادة على غزّة عبر تسميتها بوضوح بما هي عليه من دون الخوف من عواقب التصريح، وأبرزها لصق تهمة معاداة السامية التي باتت السلاح الأمضى لإسكات الأصوات الناقدة المؤثرة عبر الخلط بين انتقاد وحشية القتل الإسرائيليين ومعاداة اليهود. لا تقتصر تبعات تهمة من هذا النوع على الضرر المعنوي الناجم عن الوصم العنصري، بل يتجاوزه التهديد خسارة العمل أو التعرّض لإجراءات تأديبية أوغيرها من أشكال العقاب أو العزل. 
شكلت القضية التي رفعها الأكاديمي البريطاني، ديفيد ميللر، ضد جامعة بريستول لفصله من عمله بتهمة معاداة السامية، وربحها الرجل، سابقة في الحد من قدرة المؤسّسات على معاقبة موظفيها لتعبيرهم عن آراء ناقدة لإسرائيل. كما عزّزت موقف المنادين بالحفاظ على الحرية الأكاديمية التي باتت عُرضةً لمختلف أشكال القيود في الجامعات والمؤسّسات البحثية الغربية. كان أستاذ العلوم الاجتماعية قد تعرّض للصرف الإداري بسبب تعليقاتٍ صدرت عنه اعتبرتها الجامعة معادية للسامية، في حين أقرّت محكمة العمل التي لجأ إليها أنه تعرّض لفعل تمييزي من رب العمل. واعتبرت المحكمة أن آراءه المناهضة للصهيونية "معتقدات فكرية"، وهي بذلك مشمولة ضمن ما تُسمّى "الميزات المحمية"، وفقا لقانون المساواة لعام 2010. وكان الأستاذ الجامعي تعرّض لشكاوى بسبب تصريحات له في مناسبات داخل الحرم الجامعي وخارجه، اعتبر فيها  الحركة الصهيونية أحد الدوافع الرئيسية لرُهاب الإسلام في بريطانيا، وأن إسرائيل "عدو السلام في العالم"، وذلك سنواتٍ قبل هجمات حركة حماس في 7 أكتوبر. قال الأكاديمي إنه تعرّض "لإجراء تأديبي تمييزي وغير عادل" انتهى بطرده في حين برّرت الجامعة قرارها بأن ميلر "لم يحترم المعايير" التي تتوقّع الجامعة من أساتذتها والعاملين فيها الالتزام بها، رغم أنها لم تثبت أيّ ممارسة غير قانونية في تصريحاته.

حملات الاتهام بمعاداة السامية غالبا ما تستهدف أشخاصاً مؤثرين أو مؤسّسات بعينهم بهدف التخويف أو الإسكات

تتعرّض مواقع أكاديمية، مؤسّسات وأشخاصاً، لحملاتٍ شرسةٍ بسبب انتقادها الإبادة في غزّة ومناداتها بحلّ نظام الفصل العنصري في إسرائيل، مستهدفة بشكل خاص مؤسّسات أو أقسام الأبحاث الشرق أوسطية. ترتكز هذه الحملات على التعريف الذي اعتمدته غالبية المؤسّسات الأكاديمية لمعاداة السامية، والمنبثق من تعريف التحالف الدولي لاستذكار الهولوكوست، رغم عدم وجود تعريف عالمي متوافق عليه. يصنّف هذا التعريف 11 حالة تعدّ من بين أشكال معاداة السامية، سبعة منها تتعلق بإسرائيل منها  "إنكار حقّ الشعب اليهودي في تقرير المصير عبر، على سبيل المثال، ادّعاء أن دولة إسرائيل هي مشروع عنصري". التعريف فرض على الجامعات البريطانية عام 2020 تحت وطأة تهديد قطع التمويل أو الحدّ منه، رغم أن التعريف لا يحمل أي مشروعية أو وزن قانوني في البلاد.
بحسب هذا التعريف شبه الرسمي المعتمد في شكل واسع في المؤسّسات الغربية، تصبح التعبيرات المعادية للسياسات التمييزية الإسرائيلية، واعتبار الكيان الإسرائيلي مشروعاً كولونيالياً هي بالضرورة تعبيرات معادية للسامية. لم يمنع ذلك حراك طلابي واسع في الجامعات وخارجها من استخدام هذه الأوصاف في التنديد بالعنف غير المسبوق في غزّة إلا أن حملات الاتهام بمعاداة السامية غالبا ما تستهدف أشخاصاً مؤثرين أو مؤسّسات بعينهم بهدف التخويف أو الإسكات. الأمثلة كثيرة ومنها، على سبيل المثال، الحملة التي تعرّض لها الأكاديمي اللبناني الأسترالي غسّان الحاج من الصحافة الألمانية، والتي أدّت إلى إنهاء عقده مع المعهد البحثي الألماني، ماكس بلانك، رغم عشرات رسائل التضامن التي حصل عليها، بما فيها رسالة من أكاديميي المعهد نفسه عبّروا عن استيائهم من أجواء الخوف في المؤسّسات الأكاديمية الألمانية، والتي أدّت إلى عمليات تأديب وتحقيقات وصرف وإلغاء محاضرات ومناسبات أخرى. ومن الأمثلة أيضا سلسلة شكاوى قدّمها طلاب مؤيدون لإسرائيل ضد أساتذة مؤيدين لفلسطين في جامعة كولومبيا الأميركية توصّلت لجنة تحقيق فيها إلى أنه "لا يوجد أي دليل على أي تصريحاتٍ أدلى بها الأساتذة يمكن اعتبارها معادية للسامية"، بحسب تقرير لصحيفة نيويورك تايمز. وكانت ثلاث رئيسات لجامعات أميركية عريقة (بنسلفانيا وهارفارد ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا "أم آي تي") استقلن بعد إخضاعهن لاستجواب أمام لجنة التعليم والقوى العاملة بالكونغرس بسبب شعارات رفعها الطلاب ضد حرب الإبادة في غزّة اعتبرتها إدارات هذه الجامعات من ضمن حرية التعبير في الحرم الجامعي. رغم حصولها على تأييد واسع من الطاقم التعليمي في هارفارد، فضلت رئيسة الجامعة، كلودين غاي، وهي أول أكاديمية سوداء تحصل على هذا المنصب، التنحّي بعد تعرّض الجامعة لتهديدات بحجب تمويلات ضخمة، إذا ما استمرّت في منصبها.

سجلت الاعتداءات التي يمكن وصفها بمعاداة السامية ارتفاعا بنسبة 589% في بريطانيا لهذا العام، في حين ارتفعت الاعتداءات التي يمكن وصفها برهاب الإسلام بنسبة 365%

ندّدت أخيراً جمعية دراسات الشرق الأوسط التي تعنى بالدراسات البحثية عن المنطقة في العالم، ندّدت بما وصفتها بجهود أيديولوجية لتقييد النقاش في الجامعات الأميركية، معتبرة أن الأخيرة تعيش حاليا أجواء مشابهة لتلك التي شهدتها بعد اعتداءات 11 سبتمبر (2001). وكانت الجمعية التي أقرّت مقاطعة المؤسّسات الأكاديمية الإسرائيلية بغالبية 80% من أعضائها أثارات انتقادات واسعة لما اعتبر قراراً مثيراً للجدل، بما في ذلك سحب جامعات أميركية عضويتها في الجمعية. 
في بريطانيا، ندد تقرير للجمعية البريطانية لدراسات الشرق الأوسط والمركز الأوروبي للدعم القانوني بأجواء تخويف في الجامعات، نتيجة اتهامات متصاعدة بمعاداة السامية، تستند إلى تعبيرات منتقدة لإسرائيل. وأحصى التقرير ما لا يقل عن 40 قضية من هذا النوع رفعت ضد أساتذة وطلاب ونقابيين وجمعيات، خلصت التحقيقات فيها إلى إسقاطها باستثناء قضيتين قيد التحقيق. لا يخفّف إسقاط هذه القضايا من الضرر اللاحق بالمتهمين بها، بما في ذلك الإضرار بفرص العمل والترقّي أو الحصول على فرص تعليم. إلى جانب الضرر الرئيسي اللاحق بحرية التعبير السياسي ونقاش الجرائم التي ترتكبها آلة الحرب الإسرائيلية في حرم الجامعات، يشكل هذا التعريف لمعاداة السامية تمويها لنقاش جدّي يجب إطلاقه حول الحالات الفعلية لمعاداة السامية ورهاب الإسلام التي بلغت مستويات غير مسبوقة في الغرب كما في بريطانيا: سجلت الاعتداءات التي يمكن وصفها بمعاداة السامية ارتفاعا بنسبة 589% في بريطانيا لهذا العام، في حين ارتفعت الاعتداءات التي يمكن وصفها برهاب الإسلام بنسبة 365% في الفترة نفسها بحسب أرقام رسمية.

A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.