هؤلاء المراسلون في غزّة

هؤلاء المراسلون في غزّة

05 فبراير 2024
+ الخط -

لا تشبه وحدة المراسل في الميدان أي شيء آخر. إنه وحيد في وجه المجهول. لا شيء مضمون، بما في ذلك إمكان تنفيذ المهمة المنوطة به، وسط ظروفٍ خطيرة ومتقلبة. تشمل التدريبات على تغطية أماكن النزاعات وإرشادات حول تخفيف المخاطر للمراسل، بشكل أساسي، عبر قدرته على اتخاذ قرارات في حركته تحدّ من تعرّضه لمجازفات غير مدروسة أو ضرورية، ولو أن هذه القدرة تكتسب بشكل أساسي بالخبرة والمراس والكثير من الحظ. يصعُب تخيّل وحدة المراسلين الإخباريين في غزّة في مواجهة واقع يملكون القليل جداً من أدوات السيطرة عليه، ولو أنهم جزء من المجتمع المحيط بهم يعيشون معه وينقلون معاناته. 
تحوّل مراسل "الجزيرة" في غزة وائل الدحدوح أخيراً إلى أيقونة تعبر عن صمود مراسلي غزّة في ظروف تفوق قسوتها ما اعتاد عليه مراسلو مناطق النزاعات. تحوّل، وقد فقد أفراد عائلته، بمن فيهم ابنه البكر الصحافي حمزة الدحدوح، إلى مادة لجداريات (غرافيتي) في شوارع في لندن والقاهرة وبيروت وغيرها. حملت في حي بريكستون جنوب لندن جدارية كبيرة صورة مراسلة ترتدي سترة الصحافة وشعار "أبطال فلسطين". تحوّل هؤلاء المراسلون إلى أبطال بالقوة، وتلك ليست من متطلبات العمل الصحافي ولا من مواصفات الصحافي.
يقول وائل الدحدوح في مقابلة مع الإعلامي أيمن محيي الدين رداً على سؤال عن قدرته على العمل بعدما فقد أفراد أسرته إن الألم كبير والثمن عظيم، لكن ما البديل؟ هل ننتظر الصواريخ لتصل إلينا في منازلنا ونتخلّى عن الرسالة الإنسانية التي نقدّمها؟ بالنسبة للصحافي، التغطية من غزّة "عملٌ صعب" فرض على عائلته تضحيات جمّة، بما في ذلك صعوبة أن يمارس دوره أباً لأسرة بسبب ضغوط العمل. يقول المراسل إنه لا يزال وفياً لمهامه، لأنه وفيّ لدماء أفراد عائلته الذين قتلوا، وكان عليه أن يغطي مقتلهم باعتباره خبراً عادياً. ويتابع أنه التزم المهنية، ولم يستخدم المنصّة الإعلامية للانتقام، رغم أن الوجع كان لا يُحتمل، عندما اضطر لمعاودة عمله، وكأن أمراً لم يحصل.

تتشكّل هوية صحافي غزّة بين نقيضي الأيقونة والإرهابي

حوّلت ظروف التغطية من غزّة ما يفترض أن يكون مهمة عادية إلى ما يشبه المهمّة المستحيلة أخيراً، مهمّة دفعت عائلته ثمنها قبل أن يقتلوا بالقصف الإسرائيلي. بالنسبة للمراسل، العمل الصحافي "مهمّة إنسانية" تبرّر الخسارات المؤلمة، باعتباره صلة الوصل بين فظاعة ما يجري على الأرض والرأي العام العالمي. يقول إن ضآلة التضامن الصحافي العالمي مع القتل المتواتر لصحافيي غزّة يشكل جزءاً من الألم والإحساس بالوحدة والتخلي العالمي عنه وعن زملائه. "نشعر أننا قُتلنا مرّتين، مرّة بالقصف وأخرى بالصمت" على القتل. يقول. حتى كتابة هذه السطور، قتل ما لا يقل عن 85 صحافياً وعاملاً إعلامياً في الحرب على غزّة، بحسب لجنة حماية الصحافيين، ومركزها نيويورك.
تتشكّل هوية صحافي غزّة بين نقيضي الأيقونة والإرهابي. أعلنت إسرائيل مسؤوليتها عن مقتل صحافيين، باعتبارهم متعاونين مع حركة حماس أو "إرهابيين"، بينهم حمزة الدحدوح مراسل "الجزيرة" الذي قتل مع الصحافي مصطفى أبو ثريا في استهداف السيارة التي كانت تقلهما في حين كانا في مهمّة صحافية. في المقابل، تقدّم المؤسّسات الإعلامية مراسليها أيقونات للصمود والتضحية في أداء مهامهم الصحافية، من دون اعتبار للثقل الإنساني، والتبعات المعنوية والسيكولوجية الناجمة عن تعرّضهم لهذا القدر من المخاطر، وتعاملهم اليومي مع ظروف غير إنسانية. قد تكون إحدى الصور الأكثر إيلاماً من بين المآسي اليومية التي تصل إلينا من غزّة صورة وائل الدحدوح يودّع جثمان ابنه وهو ممسك بيده، في حين يتحدّث للإعلاميين المتجمهرين حوله عن حزنه لفقدان ابنه البكر. تساعد سرديات البطولة هؤلاء المراسلين على الاستمرار في ظروفٍ غير إنسانية، إلا أنها أيضاً تنكر عليهم حقهم بالاعتراف بمعاناتهم باعتبارها جزءاً من هويتهم المهنية. يصعب على أي منا تخيّل ما يدور في أذهان وائل الدحدوح والصحافيين داخل غزّة، عندما تتوقف المهمة الصحافية، وترتاح الكاميرا، ولو برهة.

ليس من المفترض أن يكون هؤلاء أبطالاً، يكفي أنهم صحافيون

لا حماية للصحافيين المحليين داخل غزّة ولا عدالة للذين قضوا منهم والذين يُقتلون كل يوم. أعلنت وكالتا الصحافة الفرنسية و"رويترز"، إلى جانب منظمة العفو الدولية (آمنستي)، و"هيومن رايتس ووتش" أن نتيجة التحقيقات في القصف الذي قضى فيه الصحافي اللبناني عصام عبد الله، وجرح فيه ستة صحافيين آخرون أظهرت أن القصف الإسرائيلي كان متعمّداً، واعتبرته "آمنستي" "اعتداء مباشراً على المدنيين يجب التحقيق فيه، باعتباره جريمة حرب". لن يكون هنالك عدالة على الأرجح لعصام، ولا لغيره من الصحافيين الذين قتلوا أو جرحوا، فيما يبدو استهدافهم نسقاً متواتراً. عدد كبير منهم غادر (إن لم يقتل) غزّة، ما يجعل القصة الصحافية من الداخل أقلّ اكتمالاً وتوافراً للرأي العام. لا يثير قتل الصحافيين المحليين صرخات غضبٍ قوية ما عدا بيان من هنا وبيان من هناك لمنظمّات إنسانية أو المؤسّسات الإعلامية المعنية. قال وائل الدحدوح إن الصمت الدولي يقتُل، وهو على حقّ، ولعل من المفيد أن نضيف أن سرديات البطولة الأيقونية تقتل أيضاً حقّ هؤلاء بالاعتراف بمعاناتهم أنها جزء أساسي من هويتهم الصحافية والرواية التي ينقلونها من قلب الخطر. ليس من المفترض أن يكون هؤلاء أبطالاً، يكفي أنهم صحافيون.

A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.