تونس.. نصر ممزوج بالقلق

تونس.. نصر ممزوج بالقلق

24 سبتمبر 2019
+ الخط -
تباينت قراءات الجولة الجديدة لانتخابات الرئاسة التونسية التي انتظمت أخيرا، في سباق انطلقت أطواره قبل ثماني سنوات من أجل ولوج نادي الدول الديمقراطية، واختلفت التأويلات بشأنها حد التناقض، بين من استبشر خيرا بمواصلة تونس زرع بذور الياسمين، بتنظيم انتخابات نزيهة حرّة مبكرة تنافسية، ومن اعتبر أن هذه المحطة وضعت البلد على سكة المجهول، بعد ما أفرزته الصناديق من نتائج صادمة مخيبة للآمال.
بعيدا عن التفاؤل والتشاؤم، لا بد من الإقرار بأن الشعب التونسي قطع دابر كل التوقعات، بعدما تمكّن من تدشين مرحلة جديدة، في مسار الثورات العربية، دخل معها المشهد السياسي التونسي في طور تغيرات عميقة، على الرغم من إكراهات السياق الداخلي والإقليمي والدولي وضغوطه. وباجتياز هذه المحطة الانتخابية المبكرة، اعتبارا للظروف التي نُظمت فيها، يكون التونسيون قد حققوا عدة انتصارات؛ أولها ضمان الانتقال السلس للسلطة؛ بتعيين رئيس مجلس النواب رئيسا مؤقتا للبلاد عقب وفاة الباجي السبسي؛ أول رئيس منتخب بالاقتراع المباشر بعد الثورة، فالتزمت القوى الفاعلة، وخضعت لشرعية المؤسسات، على الرغم مما تشهده البلاد من أزمات اجتماعية وإكراهات اقتصادية.
ثانيا؛ تقيُد كل القوى السياسية المؤثرة في المشهد التونسي بقواعد اللعب النظيف في النزال 
الانتخابي، إذ انضبط 24 مرشحا؛ موزعين في خريطة الترشيحات بين أحزاب اليسار (المنصف المرزوقي، حمّة الهمامي، محمد عبو)، وذوي الخلفية الإسلامية (عبد الفتاح مورو، حمدي الجبالي، هاشم الحامدي)، والمحسوبين على النظام القديم (يوسف الشاهد، مهدي جمعة، عبد اللطيف الزبيدي، عبير موسى، نبيل القروي...) والشخصيات المستقلة من خارج دائرة الطبقة السياسية التقليدية، لسلطة الهيئة المشرفة على العملية الانتخابية.
ثالثا؛ الإصرار على الانحياز لروح الثورة وسلميتها، فعلى الرغم من فقدان الأمل بالنخب السياسية، خرج التونسيون إلى التظاهر في الشوارع، بل فضلوا إحداث ثورة على النخب التقليدية باعتماد التصويت العقابي. وقد انقسم هؤلاء شقين: أحدهما، ويمثل التيار الأغلبي الصامت (55%)، اختيار مقاطعة العملية الانتخابية برمتها. بينما فضل التيار الثاني تسجيل احتجاجه على مجريات الأحداث بعد الثورة، فاهتدى إلى التصويت لمرشحين غير متوقعين من خارج المشهد السياسي التقليدي المألوف.
رابعا؛ إدراك التونسيين لتأثير الصراع بين مختلف الفرقاء السياسيين؛ بمعنى كل مكونات النظام القديم، بما فيها أحزاب المعارضة، على نضج ثمار الثورة التي ينتظرها الشعب. ما خلف استياء عميقا ضد كل مكونات الطبقة السياسية التي لم تحقق الكثير من مطالب الثورة. لذا مارس التونسيون "ديكتاتورية الشعب" بقرارهم إحداث زلزالٍ سياسي في الصناديق، يقضي بمعاقبة المنظومة الحزبية الحاكمة التي شاخت من دون نضج.
ولكن سلسلة الانتصارات تلك لا ينبغي أن تثنينا عن التنبيه إلى القلق بشأن بعض ما أفرزته هذه المحطة الانتخابية، والذي قد يتحوّل، في المستقبل القريب، إلى تهديد لديمقراطية بلاد الياسمين الوليدة. في مقدمة هذه المخاطر التراجع الكبير في نسبة المشاركة، قياسا إلى رئاسيات عام 2014؛ حيث ناهزت نسبة الاقتراع 65%، ناهيك بالانتخابات التشريعية التي بلغت فيها 70%. أضف إلى ذلك أن كلا المتنافسين في الدور الثاني لم تتعد حصته 10 % من مجموع الناخبين التونسيين؛ فالأول لم تختره سوى 8% (18 من أصل 45)، واكتفى الثاني بنسبة 6% (15 من أصل 45). ما يعني أن شرعية الرئيس المقبل ستكون ضعيفة، فأغلبيته لن تقوم على الرضى، بل ستستند إلى منطق "الإكراه"، لقطع الطريق أمام المرشح المتنافس.
على صعيد آخر، تشكل هذه النتائج تحدّيا بالنسبة للانتخابات التشريعية المقبلة، خصوصا أن الرئيس القادم لا يمتلك ظهيرا حزبيا، فالمرشح المستقل، قيس سعيد، يعتبر أن اللحظة زمن "ديمقراطية الجماهير"، وليس "ديمقراطية الأحزاب السياسية" السائرة إلى زوال. بينما ينحدر المرشح المعتقل من حزب قلب تونس الذي تأسس ليدخل الانتخابات الرئاسية. ما ينذر بأزمة أغلبية برلمانية في الأفق، من شأنها تعطيل عمل رئيس الحكومة المقبل.
تحضر الشعبوية بدرجاتٍ مختلفة في مسار المرشح الأول لدخول قصر قرطاج، قيس سعيد، 
صاحب شعار "الشعب يريد" بلا برنامج سياسي دقيق وواضح، من شأنه تقديم أجوبة عن أسئلة الاقتصاد والتنمية والديمقراطية... واستعاض عن ذلك باقتراح "تأسيس جديد للدولة"، قوامه حزمة إصلاحات دستورية، من دون أن يمتلك حزبا أو كتلة برلمانية تمكّنه من ذلك، فهو يحتاج إلى تصويت ثلثي أعضاء البرلمان (145 صوتا). كما أن فقدان الرئيس سندا داخل البرلمان ينعكس على عمله مع رئيس الحكومة، فقد يعطّل مشاريع القوانين المقترحة، كما قد يرفض منح الثقة للوزراء الذين يقترحهم، ما يجعل الرئيس مكبلا ومصالح الدولة معطلة.
وفي حال فوز المرشح الثاني نبيل القروي، الوضع أعمق وأشكل بكثير مما عليه مع منافسه، فحتى في حال خروجه من السجن بعد فوزه، هذا لا يعني أن الملاحقة القضائية انتهت في حقه، لأن الحصانة الرئاسية التي سيتمتع بها لا تسري بأثرٍ رجعي. أما إن بقي في حالة إيقاف فلن يستطيع أداء اليمين الدستورية، وبالتالي لا يمكن أن يكون رئيسا، لأن الفوز لا يعني إيقاع المتابعة ولا تعليقها ولا تأجيلها. وبعد ستين يوما، سيجد التونسيون أنفسهم أمام حالة شغور في رئاسة الجمهورية، ما يعني الدعوة إلى انتخابات رئاسية ثانية سابقة لأوانها.
وقد أكد التونسيون، في هذه المحطة الانتخابية، أنهم عازمون على مواصلة تفكيك أعمدة السلطوية وركائز النظام القديم، وقلب الطاولة على مغالطات (فزّاعة الإسلاميين، الاستبداد أو الخراب..) تروج حقائق من لدن خصوم الثورات العربية. تونس اليوم أمام ثورة جديدة، ولكن بأدوات مختلفة، تجعلنا نقرّ بأننا أمام "نصرٍ ممزوج بالقلق".
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
محمد طيفوري

كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.

محمد طيفوري