معضلة السعودية

معضلة السعودية

20 سبتمبر 2019
+ الخط -
بغض النظر عن هوية المتورّط المباشر في الهجوم على منشأتي "أرامكو"، عصب الصناعة النفطية السعودية، يوم السبت الماضي، الحقيقة التي لا جدال فيها أن الأمن القومي للمملكة تحول إلى مشاع مكشوف أمام إيران وأدواتها في المنطقة. لقد أثبتت السنوات الخمس الماضية، منذ أعلنت السعودية الحرب على الحوثيين في اليمن، أن المملكة بلد هشٌّ عسكريا واستراتيجيا، وأنها، على الرغم من صفقات التسلح الضخمة التي تعقدها منذ عقود طويلة، لا زالت عاجزة عن الدفاع عن نفسها، دع عنك عن مصالحها الجيوستراتيجية. وهذا يدل على خلل جوهريٍّ في بنية الدولة، داخلياً، وخلل في علاقاتها وسياساتها في الإقليم، فضلا عن الخلل في علاقاتها الدولية. المشكلة أن الرياض تعيش حالة إنكار، ولا تريد الاعتراف بأزمتها، ومن ثمَّ لا يبدو أن ثمّة أفقا لإصلاح ذلك الخلل وتلك العيوب البنيوية في المدى المنظور، وهو ما ينذر بتداعيات أخطر وأكبر كثيرا على أمن المملكة تهدّد وجودها. 
ثمّة حقيقة صادمة، ينبغي أن تعترف بها السعودية، إذا أرادت محاولة استدراك ما يمكن استدراكه، مفادها بأنه ليست إيران وحدها البلد المعزول والمنبوذ دوليا وإقليميا اليوم، بل المملكة نفسها أصبحت معزولة ومنبوذة، وينظر إليها شزرا كذلك. ما سبق لا يعني أن إيران قوة بنّاءة ومسؤولة في الإقليم، بل العكس هو الصحيح، غير أن المفارقة أن السعودية تنافسها في التخريب والرعونة وعدم المسؤولية. ولكن إذا كانت إيران طوّرت قوة ذاتية، وغرزت مخالب في الإقليم لتعزيز مكانتها وتعظيم أوراقها على طاولة أي مفاوضات مستقبلية، فضلا عن تحالفاتها المصلحية المشتركة مع قوى دولية صاعدة، كروسيا والصين، فإن السعودية نجحت، بوعي أو دونه، في نسف معظم أوراق قوتها إقليميا ودوليا، وخسرت كثيرا من تحالفاتها في المنطقة، في حين أن تحالفاتها الدولية نوع من التبعية أكثر منها تحالفات نِدِّية مشتركة، وتحديدا مع الولايات المتحدة.
النقطة الأخيرة شديدة الأهمية في هذا السياق، إذ اتكأت المقاربة الأمنية القومية السعودية تحديدا، والخليجية عموما، على المظلة الحمائية الأميركية منذ عقود. ومعلوم أن العقيدة الاستراتيجية الأميركية في منطقة الخليج العربي قامت على استخدام القوة العسكرية، إذا تطلب الأمر، لحماية المصالح الأمنية القومية الأميركية هناك، وهو ما عرف بـ"مبدأ كارتر"، عام 1980، نسبة إلى الرئيس الأميركي الأسبق، جيمي كارتر. كانت حرب الخليج الأولى بعد الغزو العراقي للكويت، مطلع تسعينيات القرن الماضي، أول تطبيق عملي لذلك المبدأ، تحت إدارة الرئيس الأسبق، جورج بوش الأب، إلا أن المقاربات الأميركية لمصادر التهديد والحلفاء والأعداء في منطقة الخليج ستشهد إرهاصات تغييرات جوهرية بعد هجمات "11 سبتمبر" في 2001، في نيويورك وواشنطن. من أصل 19 عشر خاطفا للطائرات الثلاث (واحدة سقطت في ولاية بنسلفانيا) التي استخدمت لتنفيذ الهجمات، كان هناك 15 سعوديا من أعضاء تنظيم القاعدة. مباشرة، تحوّل النقاش في الإعلام الأميركي، والدوائر البحثية والاستخباراتية والأمنية، إلى دور السلفية الوهابية السعودية في تأجيج تيارات الغضب الإسلامي ونشر ثقافة متطرفة عنيفة. وعلى الرغم من أن إدارة جورج بوش الابن سعت قدر الإمكان إلى تحصين قيادة المملكة من أي تبعاتٍ قانونية، وبالتالي حماية التحالف المشترك بين الدولتين، إلا أن سمعة المملكة تلقّت ضربة قاصمة لم تتعاف منها منذئذ.
كان الغزو الأميركي الكارثي للعراق، عام 2003، نقطة مفصلية في إعادة صياغة المقاربة 
الأميركية نحو الخليج العربي، فقد تورّطت الولايات المتحدة في مستنقع وحل لسنواتٍ طوال، وكان نتيجة ذلك تسليم العراق لإيران وحلفائها. أبعد من ذلك، حَدَّ التدخل العسكري الأميركي الفاشل استراتيجيا، في العراق، من قدرة الولايات المتحدة على التصدّي لأنشطة إيران "المزعزعة للاستقرار" في المنطقة. المفارقة اللافتة هنا أن الجيش الأميركي وجد نفسه أمام مقاومة وطنية عراقية سنية شرسة، وكان تنظيم القاعدة، بإيديولوجيته المستلهمة للسلفية الوهابية، أكثرها فتكا. وهكذا أضحت القوى المحسوبة على طهران في العراق حليفا لا خصما.
لم تكن السعودية غافلةً عن الإزاحات التي تجري في العقيدة الاستراتيجية الأميركية، خليجياً، ولكنها وقفت عاجزة أمامها. وكانت ثالثة الأثافي، بالنسبة للنظام السعودي، وصول باراك أوباما إلى الرئاسة مطلع عام 2009. لم يخف أوباما بغضه للسعودية وإيديولوجيتها وسياساتها، وأطلق محاولاتٍ للتقارب مع إيران، تمخضت عن اتفاق نووي متعدّد الأطراف معها عام 2015. كان لذلك وقع الصدمة على المملكة، ولكنها وقفت عاجزة أمامها. وكان ذلك كله في كفة وما قاله أوباما وما فعله بعد ذلك كان في كفة أخرى. في مقابلته الشهيرة مع مجلة ذي أتلانتك الأميركية، وتحت عنوان "عقيدة أوباما"، لم يتردّد الأخير في الغمز من قناة السعودية والإيديولوجيا الفقهية التي تتبنّاها، محملا إياها مسؤولية نشر التطرّف في العالم الإسلامي. بل إن مُجْرِي المقابلة، الصحافي، جيفري غلودبيرغ، نقل عن مسؤولين كبار في البيت الأبيض حينها أن أغلب منفذي هجمات "11 سبتمبر" في 2001 كانوا سعوديين لا إيرانيين. ولم يتردّد أوباما في مطالبة السعودية، والخليجيين عموما، بتقاسم النفوذ في المنطقة مع إيران، وهو ما أشر إلى تخلي الولايات المتحدة عن حمايتها مباشرة. أما الصاعقة الأكبر التي نزلت على رؤوس السعوديين فتمثلت بقول أوباما إن بعض حلفاء بلاده في الخليج، وكانت إشارةً مبطنة إلى المملكة، يريدون إشعال نيران حروب طائفية مع إيران، يعجزون عن حسمها، ثم يطالبون الولايات المتحدة بالتدخل وحسمها لصالحهم، وهذا ما لن يجري.
وعلى الرغم من أن السعوديين تنفسوا الصعداء بعد مجيء دونالد ترامب إلى الحكم، وظنوا أنهم 
قادرون على أن يشتروا دعمه عبر رشىً سياسية متمثلة في صفقات عسكرية هائلة، إلا أنه أثبت أنه لا يختلف عن أوباما في مقاربته لأمن الخليج والتصدّي للنفوذ الإيراني فيه. صحيح أنه انسحب من الاتفاق النووي مع إيران، العام الماضي، وصحيحٌ أنه أعاد فرض عقوبات اقتصادية قاسية عليها، إلا أنه يقاوم بكل قوة أي محاولات لجرِّ رجليه إلى حربٍ معها. وهو لم يخجل يوما أن يعلن جهاراً نهاراً أن على السعودية أن تدفع مقابل الحماية الأميركية. ثمَّ إن ترامب، بعد هجمات "أرامكو" أخيرا، وبعد أن أعلن أن الولايات المتحدة "على أهبة الاستعداد" لردع إيران عسكريا، سارع إلى تعديل موقفه، ليقول إن هذا أمر يخصّ السعودية، وإذا أرادت الأخيرة الحماية، فهي تعلم أن عليها أن تدفع. ولا داعي للتذكير هنا أنه حتى ولو دفعت السعودية ثمن الحماية مجدّدا، ستبقى واشنطن متردّدة في خوض حربٍ لا تراها حربا تعنيها مباشرة، خصوصا أنها لم تعد تعتمد، منذ سنوات، على النفط الخليجي، بل هي مكتفية ذاتيا، وهذا ما أعاد ترامب تذكير الرياض به قبل أيام.
المستوى الذليل الذي وصلت إليه السعودية هو حصاد سياسات خاطئة منذ عقود طويلة. في حين كانت إيران تراكم أوراق القوة، وَتُطْبِقُ على المملكة، شمالا عبر العراق، وجنوبا عبر اليمن، وتمد أذرعها الضاربة في المنطقة في العراق وسورية ولبنان واليمن، كانت السعودية تفكك عرى قوتها الذاتية والموضوعية. سعت الرياض دوما إلى تشويه إيران عبر عدسات طائفية والتخويف من التمدّد الشيعي في المنطقة، ولكنها في الوقت ذاته كانت تفكّك "المعسكر السني"، سواء عبر إشاعة الفوضى في دول عربية، كمصر وليبيا، أم عبر حصار دول أخرى، كقطر، دع عنك إعلانها الحرب، بتحريض إماراتي، على تنظيمات سنّية مؤثرة، كالإخوان المسلمين وحركة حماس. ولا تُنسى هنا إهانة حلفائها في لبنان، والصراع مع القوة السنية الكبيرة، شديدة الأهمية الاستراتيجية في المنطقة، تركيا. الأدهى أن حكام المملكة الجدد لم يتركوا طريقة لإيهان دولتهم إلا وسلكوها، ومن ذلك كسر شوكة العائلة الحاكمة لصالح ولي العهد، محمد بن سلمان، وضرب تحالفاتها الحساسة في الإقليم، كما مع دول مثل الأردن والمغرب وباكستان. أما تشويه سمعة المملكة عالميا، فيكفي الاعتقالات العشوائية التي تشنها السلطات هناك، وتكفي حادثة اغتيال الصحافي، جمال خاشقجي، وهو ما دفع أعضاء بارزين في الكونغرس الأميركي إلى التشكيك بتأكيدات الرياض أن إيران هي من هاجمت "أرامكو"، معللين ذلك بالقول إن من كذب في موضوع خاشقجي لا يستبعد عليه أن يكذب في موضوع هذا الهجوم.
هذا هو حصاد العلقم الذي زرعته الرياض، ونحن لمَّا نر بعد الآثار الكارثية الأخطر التي ستترتب عليه. الذئاب لا تقبل بالضعفاء في قطيعها، والولايات المتحدة ليست استثناء في هذه القاعدة.