تونس.. حركة النهضة وسباق الرئاسة

تونس.. حركة النهضة وسباق الرئاسة

16 اغسطس 2019
+ الخط -
على امتداد ثماني سنوات من قيام الثورة التونسية، اعتزلت حركة النهضة، ذات المرجعية الإسلامية، خوض غمار السباق على رئاسة الجمهورية، والحال أنّها تحظى بقبولٍ لدى شريحة معتبرة من المجتمع التونسي، وتتوفّر على قاعدة انتخابية منضبطة، وازنة داخل المشهد السياسي. وللتاريخ، فقد صوّت نوّاب الحركة في المجلس التأسيسي سنة 2011 لصالح تولّي المنصف المرزوقي مسؤولية رئاسة البلاد، تكريما لجهوده المعتبرة في مكافحة الدكتاتورية. فيما أوصت قيادة الحركة في رئاسيات 2014 بتأييد الباجي قايد السبسي، باعتباره شخصيّة توافقية، جامعة. وفي الحالين، دعمت الحركة في الاستحقاق الرئاسي مرشّحا من خارجها. وبرّرت ذلك التوجّه بهشاشة التجربة الديمقراطية، وبعدم رغبتها في تصدّر المشهد البرلماني والرّئاسي في آن، وبسعيها إلى اقتسام السلطة مع غيرها، وميلها إلى التوافق بدل المغالبة في إدارة شؤون البلاد. أمّا في الانتخابات الرّئاسية المزمع تنظيمها منتصف الشهر المقبل (سبتمبر/أيلول)، فقد انزاحت حركة النهضة عن نهجها السابق في التعاطي مع الحدث الرئاسي، واختارت، لأوّل مرّة في سيرتها وفي تاريخ تونس، تقديم مرشّح من داخلها لخوض معترك التنافس على الرّئاسة. يتعلّق الأمر بعبد الفتّاح مورو، أحد مؤسّسيها ونائب رئيسها. ويعدّ هذا التوجّه الجديد تحوّلا نوعيّا في مسار الحزب، يحمل طيّه خلفيّات، ورسائل، ودلالات عدّة. 
من المفيد الإشارة إلى أنّ توجّه حركة النهضة نحو دعم مرشّح للرئاسيات يعود، في جانب ما، إلى تغيير الرّوزنامة الانتخابية، وتقديم الاستحقاق الرّئاسي عن الانتخابات التشريعية، وإدراك الحركة إمكان أن تؤدّي نتائج الرّئاسيات، في دورها الأوّل، إلى التأثير في توجّهات النّاخبين عند تصويتهم لاختيار نوّاب البرلمان. ولذلك جدّت في تفادي الغياب في الانتخابات الرّئاسية، وبحثت لها، في مقام أوّل، من خارج الحركة، عن عصفور نادر للرّئاسة (والعبارة لرئيسها راشد الغنّوشي)، تدعمه للفوز بكرسي قصر قرطاج. ولكن جهودها في هذا المستوى لم تُؤت أُكلها، ومردّ ذلك إلى اعتزاز بعض مَن حاورتهم بما لديهم من أنصار وعدم حماستهم للتحالف مع حركة "محسوبة على تيّار الإسلام السياسي". ويبدو أنّ "النهضة" نفسها لم تجد الشخصية السياسية المناسبة من خارج الحزب التي تلتقي معها على أرضية مشتركة، شخصية تُقرّ 
بضرورة إدارة البلاد بطريقة توافقية في المرحلة المقبلة، وتضمن للحركة تموقعها المعهود في المشهد السياسي، بما هي "صانعة الملوك". وقد دفعها ذلك إلى الرّهان على عصفور من داخلها لخوض معترك الرئاسة. واختيار عبد الفتاح مورو لهذه المهمّة لم يتمّ بطريقة آلية، فوقية، بل تمّ بطريقة مؤسّسية ديمقراطية، من خلال الاحتكام إلى آلية التصويت في مجلس الشورى. وذلك بعد جدل محتدم دام طويلا بين القيادة والأنصار، وبين المكتب التنفيذي ومجلس الشورى. واللافت هنا أنّ راشد الغنوشي تنازل عن أولويته بالترشح للرئاسة (بحسب القانون الداخلي للحزب)، لصالح نائبه ورفيق دربه مورو، على خلاف ما يُشاع من حديث عن سطوة الغنوشي وامتداد نفوذه في الحركة.
ولم يكن اختيار عبد الفتّاح مورو مرشّحا للرّئاسة عمل مصادفة أو فعل انفعال، بل كان قرارا ذكيّا أيّده زعيم الحزب وأغلب أعضاء مجلس الشورى. ويستمدّ معقوليته من أنّ مورو شخصية إسلامية، غير عادية في حركة النهضة. لِما يتمتّع به من كاريزما باهرة، وحنكة سياسية ظاهرة، وقدرات اتّصالية لافتة. ولكونه وجها ناقدا في الحركة، لا يرى حرجا في ممارسة النقد الذاتي، وتشجيع خطاب المراجعات في الفكر الإسلامي. ويحظى الرّجل بشعبية داخل الاجتماع التونسي، تتجاوز حدود حركة النهضة، حتّى أنّ بعضهم يقول: "لا تستهويني حركة النهضة. لكن يُعجبني مورو"، وذلك لما يتميّز به من كياسة، وتواضع، وانفتاح، واعتدال، وقدرة على التواصل مع مختلف مكوّنات الشعب التونسي. كما أنّه يُعتبر مثالا لصورة "المسلم الديمقراطي" الذي يبذل جهده للتوفيق بين مقتضيات الأصالة ومستجدّات الحداثة. وهو يتخفّف من صورة الإسلامي السلفي، التقليدي، الميّال إلى ادّعاء امتلاك الحقيقة، والموسوم بالتشدّد، والتعصّب، والتعالي. فعلى العكس من ذلك، يُقرّ مورو بثقافة الاختلاف والتسامح، وضرورة الانفتاح على الغير، والتكيّف مع الواقع. ومن ثمّة، يبدو شخصية وفاقية، جاذبة، تجمع ولا تُفرّق. لذلك اختارته حركة النهضة، ليعبّر عن هويّتها الاعتدالية المنفتحة، وليجسّر الفجوة بينها وبين أطياف مختلفة في المجتمع التونسي، وهي تُدرك قدرته على ثجميع النّاس، وإبراز العمق الشعبي للحركة.
وبانخراطها في مسار التّسابق على الرّئاسة، تبعث حركة النهضة برسائل عدّة إلى الداخل والخارج. ففي مستوى البيت الدّاخلي، يمكّن ترشيح مورو من تجميع المنتمين إلى الحركة والمتعاطفين معها، ويوحّد صفوفها، ويُؤجّل خلافاتها، ويساهم في استرضاء الغاضبين منها الذين ملّوا انتهاج قادتها سياسات التنازل لصالح منافسيها في أكثر من مناسبة، وملّوا ترويج بعضهم فوبيا خوض الرئاسة، وسئموا لعب الحركة أدوارا ثانوية في إدارة البلاد، على الرغم من شعبيتها وحسن تنظيمها، وهم يتطلّعون، من خلال الرئاسيات، إلى تعزيز مساهمة الحركة في صناعة القرار وسياسة البلاد بطريقة ديمقراطية، ويطمحون إلى ممارسة مواطنتهم عبر 
تأييد شخصية من داخل الحزب، يرونها جديرة بالرئاسة، وقادرة على تفهّم مطالبهم، وتمثل أحلامهم ومشاغلهم. ومن ثمّة، يجدّد ترشيح مورو الثقة بين القيادة والأنصار، ويخبر بلا مركزية القرار داخل حركة النهضة، وميلها إلى اعتماد الآليات الديمقراطية، لاختيار ممثّليها وإدارة خلافاتها الداخلية. وعلى صعيد المشهد السياسي التونسي، تفوّت حركة النهضة، بتقديمها مرشّحا للرئاسة، الفرصة على شعبويين، وثورجيين، ومافيوزيين، والتهازيين، كثيرين، كانوا سيغتنمون غيابها لاستمالة خزّانها الانتخابي، وتوظيفه للظفر بكرسي قصر قرطاج.
أمّا على الصعيد الخارجي، فتعزّز حركة النهضة، بخوضها غمار الرئاسة، صورتها المدنية، وتُبرز للعالم تمثلها النهج الديمقراطي وتسليمها به، وقبولها مبدأ التنافس السلمي على السلطة، ومجافاتها نموذج الحركات الإسلامية التقليدية أو العنيفة، وتُثبت قدرتها على التطبيع مع منظومة الحكم في تجلّياتها المختلفة، وتُظهر استعدادها لتقديم تصوّرٍ لمؤسّسة الرّئاسة وتوابعها، خصوصا ما تعلّق بإدارة الدبلوماسية التونسية وملفّ العلاقات الخارجية. ويبدو أنّ القوى الدولية التقدّمية الفاعلة لا ترى حاليّا حرجا في وصول شخصية إسلامية معتدلة إلى سدّة الرّئاسة، ما دام ذلك يتمّ عن طريق صندوق الاقتراع، وما دامت تلك الشخصية مشبعةً بروح الديمقراطية وثقافة حقوق الإنسان.
بعد ثماني سنوات من الثورة التونسية، يتبيّن أنّ حركة النهضة، ذات المرجعيّة الإسلاميّة، لم تنخرط في مسارات أسلمة الدولة وأخونة المجتمع، ولم توظّف الديمقراطية للانقلاب على الديمقراطية، وفصلت إلى حدّ ما بين الدعوي والسياسي، وطبّعت، بالتدريج، مع تجربة الحكم، وتباين المواطنون في تقييم أدائها باعتبارها حركة حاكمة، بين منتصر لها ومتحامل عليها وناقد تجربتها في إدارة البلاد خلال السنوات الماضية. ويأتي خوض "النهضة" استحقاق الرّئاسة، ليُعزّز رصيدها السياسي، ويكشف مدى امتدادها في الشارع التونسي. فهل سيحلّق عصفور "النهضة" في مشوار الرّئاسة عاليا، أم الأمر خلاف ذلك؟
511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.