السلام عندما يُخرج أسوأ ما فينا

السلام عندما يُخرج أسوأ ما فينا

28 يوليو 2019
+ الخط -
ثمّة اعتذاران يستوجبان التقديم في حادثة قذف المطبّع السعودي، محمد السعود، بالأحذية والكراسي من أهالي البلدة القديمة للقدس، ومن داخل الحرم المقدسي، الأول للمقذوف نفسه السيد السعود، والآخر لجناب الحذاء.
في معادلة القاذف والمقذوف التي دارت فصولها داخل شوارع القدس العتيقة، وقع إشكالٌ لم يتنبّه إليه طرفا المشاجرة جيدًا، فالمطبّع المذكور تنطّح لجعل نفسه وقودًا في معركة "سلام" أضخم من عباءته، فيما أخطأ الطرف الثاني المرمى الذي كان عليه أن يوجه إليه أحذيته المقذوفة. ولكن ربما يشفع له طول انتظاره، بعد أن حمل أحذيته ردحًا طويلًا بانتظار أن يمرّ "الهدف" الذي سيصبّ عليه جام غضبه، فكان أن خيّل إليه أن السعود، بعباءته الطائرة، وتبختره الصفيق بين جنود الاحتلال، إنما يمثّل ذلك الهدف المنتظر.
على الأرجح كان المقدسيون، ومن خلفهم فلسطينيو الداخل، يترصدون مرحلةً برمتها أوقعهم في حبائلها سادتهم من "ثوار زمان"، وحكام العرب، دعوها زورًا وبهتانًا، "مرحلة السلام"، وأقنعوهم بأنها "خاتمة الأحزان"، وبأن ثمارها ستعمّ المشرق والمغرب، وما عليهم إلا أن يهيئوا سلالهم لاستقبال المحصول الهابط من سماء الخير، ثم ليكتشف المخدوعون في خزانات الانتظار أنهم دفعوا في "مرحلة السلام" ثمنًا يفوق ما دفعوه في "مرحلة الحرب"، من دمهم وأرضهم ومعيشتهم.
لم يختلف الكثير بين المرحلتين، اللهم باستثناء أن القتل صار مشروعاً لتحقيق السلام، واغتصاب الأرض ضرورة لإظهار حسن النيات، وزرع المستوطنات تمتينًا لأواصر القربى وحسن الجوار.. تغيرت المسميات، وبقي الاحتلال واحدًا، بل غدا لإسرائيل أداة تكفيها عناء مطاردة المقاومين، وتسليمهم لزنازينها ومحاكمها، واقتطاع الضرائب الباهظة نيابة عن جباتها، وإذا أخلّت السلطة بأيٍّ من بنود "اتفاقية السلام"، كأن تتوانى عن مطاردة مقاوم، فلإسرائيل الحقّ أن تنفذ المهمة بنفسها، وما على السلطة وشرطتها غير إخلاء الطرق الموصلة إلى بيت المقاوم الذي حولت مسمّاه اتفاقيات السلام إلى "إرهابي"، وتقديم سائر التسهيلات اللوجستية لجنودها، وإلا فإن وجود السلطة نفسه سيكون مهدّدًا، كما هدد زمن الراحل ياسر عرفات عندما حوصر في المقاطعة.
في خضم هذه المفارقات المؤسسية، كان الفلسطينيون يجدون أنفسهم وسط مقارناتٍ مضنيةً بين "مرحلتين"، لم يختلف فيهما غير لون الرايات فحسب، ففي مرحلة "الحرب" كان الفلسطيني يموت براية حمراء. وفي مرحلة السلام، صار يموت براية بيضاء.. وفي كليهما وجهان لهزيمة واحدة.
هناك اختلاف واحد يناقض أقوال الحكماء، في حالة العرب فقط على الأرجح، فلئن كانت الحرب تخرج أسوأ ما في الإنسان كما قيل، فإن "السلام" أخرج أسوأ ما في العرب.. أخرج نكرة مثل محمد السعود، لا يمت إلى عالم الصحافة بصلة، ليجعل منه "بطل سلام" في أعين الصهاينة وعرب الصهاينة ممن أرسلوه ليكون وقودًا لأحذية المقدسيين، كما أخرج قبل ذلك وحوشًا مثل محمد بن سلمان بمنشاره العتيد الذي يستخدمه لنشر كل من يعادون "السلام" مع إسرائيل على طريقته، ومحمد بن زايد الذي يشعل الحروب في الوطن العربي كله من أجل تحقيق السلام مع إسرائيل، وعبد الفتاح السيسي الذي يقذف صناديق الاقتراع بالمدافع، ويقذف إسرائيل بورود السلام.
لهذا وذاك، كان الفلسطينيون ينتظرون أي هدف، مهما بدا ضئيلًا ليفرغوا فيه معركتهم ضد السلام، بالأحذية التي تئن من وجع الحيطان العربية، وبالكراسي التي تعدّ في نظرهم هدفًا بحد ذاتها؛ لأنها ترمز لطغاة العرب.
وأما الاعتذار الواجب للحذاء؛ فهو اعتذار تاريخي، طالب به شاعر عربي منذ القدم، غير أن أحدًا لم يستجب له. وربما حلّ أوانه الآن فقط.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.