حاشية من محمود المسعدي أيضاً

حاشية من محمود المسعدي أيضاً

25 يوليو 2019
+ الخط -
تعلقت مقالة الكاتب معن البياري في "العربي الجديد" في 16 يوليو/تموز الجاري، "حاشية من أكرم زعيتر"، بثلاث صفحات في الكتاب الصادر أخيرا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات "يوميات أكرم زعيتر.. سنوات الأزمة 1967-1970". أضاءت على ما دوّنه الوزير الأردني والمناضل الفلسطيني والعروبي أكرم زعيتر (1909- 1996) يوم 20/1/1969 عن جلسةٍ لمجلس الأعيان الأردني (أحد غرفتي البرلمان)، جاء في أثنائها أن عضو المجلس، زعيتر، على أغلاط لغوية محشوّة في 17 مشروع قانون عرضت على المجلس للموافقة عليها. وقال: لا يفترض أن يكتب القانون بأسلوب ابن المقفع أو الجاحظ، ولكن لا بد أن يتوافر لكل قانون عنصران: الوضوح وصحة اللغة. ثم تم اقتراحٌ بأن يُضمّ زعيتر إلى اللجنة القانونية، على أن يقدّم جدولا بالأخطاء اللغوية ويصار إلى الأخذ بتصويباته، فتقرّر ذلك بالإجماع. وجاء في مقالة البياري إن مطلب أن تُكتب القوانين بلغةٍ عربيةٍ سليمة ينسحب على غير بلد عربي، ".. إذ لا يتورّع المشتغلون بالسياسة والبرلمانيون العرب، وغيرهم من صنّاع الرأي وأهل الإعلام، عن بهدلة اللغة العربية والاعتداء عليها".
رحم الله أكرم زعيتر، وغيره من الرجال الغيورين على اللغة العربية، والمدافعين عنها في المواقع التي مرّوا بها. تعيدنا "الحاشية" التي خصص لها الكاتب مقالته إلى مواقف مماثلة لجيل الرواد والمؤسسين، ومنهم الأديب والسياسي والمفكر التونسي محمود المسعدي (1911 - 2004)، وصاحب المؤلفات العديدة، "السد" و"حدّث أبو هريرة قال.." و"مولد النسيان" وغيرهما. كان وزيرا للتربية والتعليم، ووزيرا للثقافة. ولمّا كان رئيسا لمجلس النواب التونسي، لم يسمح بأن تكون مداخلات الأعضاء بغير العربية الفصحى، ولم يتردّد مرة في تصويب أي أخطاء من أي منهم مباشرة. وقد أوقف حديث نائب، عندما قال "إن النائبة... من حقها أن تقول كذا"، ليقول له "النائبة في اللغة العربية هي المصيبة، عافاكم الله، والصواب أن نقول السيدة النائب"، كما لا يقال "عضوة مجلس النواب"، وإنما عضو مجلس النواب".
ويذكر بعض معاصري محمود المسعدي أنه انتدب مختصا في اللغة العربية لمراجعة نصوص القوانين الصادرة عن مجلس النواب وتقارير اللجان ومداولات الجلسات. وحدث أن صحافيةً طرحت عليه سؤالا بالفرنسية (وهو خرّيج السوربون ودرّس فيها)، فرفض إجابتها، وعاتبها على مخاطبته بغير العربية، خصوصا وهو في رحاب مجلس النواب، وذكّرها بالفصل الأول من الدستور "تونس دولة حرة مستقلة، الإسلام دينها والعربية لغتها".
كان المسعدي، وهو الوزير وممثل تونس لدى منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم
 (يونسكو) ولدى المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو)، وغيرهما، يرفض أن تكون مداخلاته بغير العربية الفصحى. وكان يردّد دائما أن "كيان الشعب التونسي قائم على اللغة العربية والدين الإسلامي". ومن أقواله "كان من حظي أن كلّفت بوزارة التعليم، فوضعت ما سمّيناه البرنامج القومي للتعليم التونسي، ويتضمّن المحافظة أساسا على عنصري ثقافتنا القومية، الإسلام والعربية، مع تفتّح كامل على الحضارة العصرية والثقافة الإنسانية".
كان الكاتب التونسي الشهير يرى أن المسخ الحقيقي الذي قام به الاستعمار الفرنسي لم يكن سياسيا فحسب، بل كان ثقافيا ولغويا وحضاريا أيضا. ولذلك كرّس جهده ونضاله منذ عام 1944 من خلال مجلة "المباحث"، وعبر مسيرته الطويلة، للدفاع عن الهوية العربية الإسلامية، تأصيلا للذاتية التونسية وكيانها وخصوصيتها. ورفض الدعوات إلى عزل الشخصية التونسية عن سياقها العربي الإسلامي، والمساعي الرامية إلى تداول اللهجة المحلية في المناهج المدرسية، والبرامج الثقافية ووسائل الإعلام.
أين نحن اليوم من ذلك الزمن وأولئك الرجال؛ الفلسطيني الأردني أكرم زعيتر والتونسي محمود المسعدي والأردني ناصر الدين الأسد والمصري طه حسين والسوداني محيي الدين صابر والجزائرييْن مفدي زكريا وأحمد طالب الإبراهيمي والمغربي مصطفى القباج والكويتي عبد العزيز حسين وغيرهم. كم يلزمنا من أمثال هؤلاء لإيقاف نزيف هتك العربية في برلماناتنا ومؤسساتنا العربية، وفي مقدمتها جامعة الدول العربية، وفي وسائل إعلامنا، وصولا إلى ما تحفل به شوارعنا من لافتاتٍ إشهاريةٍ هجينةٍ، تؤكد غربة العربية في أوطانها. وهي اللغة التي قال عنها العالم الفرنسي إرنست رنيال إنها "بدأت فجأة على غاية الكمال، وهذا أغرب ما وقع في تاريخ البشرية، فليس لها طفولة ولا شيخوخة". وقال العالم الألماني فيرتاغ إنها أغنى لغات العالم.
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي