أتدرون من هو المفلس؟

أتدرون من هو المفلس؟

16 يونيو 2019
+ الخط -
أتدرون أيّها هو المفلس من الأنظمة العربية؟ سيقال من لا مال عندها، وأقول لا، بل هي التي تغلق مكتب قناة الجزيرة عندما تنفد أرصدة وعودها الجوفاء لشعوبها بالحرية والإصلاح والتغيير. حدث هذا في تونس، قبيل إطاحة زين العابدين بن علي، بعد أن حاول يائسًا إقناع شعبه بأنه "فهمه أخيرًا"، وسيحقق مطالب ثورة ياسمينه التي اجتاحت مدن البلاد وقراها، من أقصاها إلى أقصاها. غير أنه، عندما أدرك أنه إنما يلعب في الوقت الضائع، عمد إلى إغلاق قناة الجزيرة، محملًا إياها وزر "التحريض على الشغب".
تكرر الأمر نفسه في مصر حسني مبارك، عشية استفحال التظاهرات المطالبة برحيله، فعمد هو الآخر، من ضمن إجراءاته القمعية التي وصلت إلى حدّ دهس أجساد المتظاهرين بسيارات المخابرات وأخفاف الأبعرة، إلى إغلاق مكتب قناة الجزيرة في القاهرة، معتبرًا أنها السبب الرئيس وراء ما يحدث في بلده. وتبعه بعد عام ونيف عبد الفتاح السيسي، غداة انقلابه المشؤوم على الديمقراطية الوليدة برئاسة محمد مرسي؛ فكان أول إنجازاته إغلاق مكتب قناة الجزيرة، واعتقال طاقم مكتبها في القاهرة، وزجّ بعضهم في السجون، وكأنه يبعث رسالةً مؤداها أن "الجزيرة" هدفٌ لا يقل شأنًا عن هدف إطاحة الديمقراطية ذاتها، ممثلة بالرئيس المنتخب، فضلًا عن أن الإغلاق جاء قبيل مجزرة ميدان رابعة وسواها، بغية التعتيم على مشاهد الدم المروّعة التي ستفيض بها ميادين القاهرة بعد أيام.
أما ختامها "غير المسكيّ" بالتأكيد، فحدث في الخرطوم مع إطلالة عيد الفطر، حين شاء العسكر أن يقدّموا لشعبهم أثمن "عيدية"، عمادها نهرٌ من دم المعتصمين أمام وزارة الدفاع، وكانت الرسالة واضحةً وضوح الدم: "لا تفكّروا بأبعد من إطاحة عمر البشير، ففي الإطاحة منتهى ثورتكم، أما البقية فترسمها بساطيرنا على أجسادكم". وبالطبع، كان قرار إغلاق مكتب قناة الجزيرة في الخرطوم قد سبق المجزرة بساعات، كي لا يسمع العالم أنين الضحايا أمام "وزارة الهجوم" على الشعب، لا الدفاع عنه كما يشير مسمّاها.
في تلك المشاهد كلها، كانت "الجزيرة" حاضرةً، ضحية من ضحايا طغاة العرب الذين رأوا فيها محرّضًا على القيام بالثورة، ورآها الضحايا صوتًا أمينًا لثورتهم. ومن المفارقات أن "الجزيرة" كانت أشد حضورًا حتى بغيابها؛ لأنها غدت شاهدًا على النهج الذي سيسلكه الانقلابيون الجدد عند اغتصابهم السلطة. وفي مثل هذه الحالة، تصحّ المفاضلة بين نظام حكم عربي وآخر، عبر السماح أو عدمه، لقناة الجزيرة بالعمل في بلدان تلك الأنظمة، وهذا ما لا يدركه طغاة العرب، حين يسارعون إلى إغلاق مكاتب هذه القناة عند أدنى هزّة تضرب أركان حكمهم.
ربّ سؤال أبله يطرحه بعضهم، مفاده أن إسرائيل الدولة الديمقراطية، أغلقت قناة الجزيرة أيضًا، فلماذا يُلام طغاة العرب في ذلك؟ والإجابة هنا أن إسرائيل أغلقت مكتب قناة تنحاز للشعب المحتل، لا إلى نقيضه، غير أن ما لا يدركه هؤلاء البلهاء، من حيث لا يعلمون، أنهم يبرهنون أن الشعوب العربية التي تخضع لهذه الطغمة من القتلة هي "محتلة" كذلك، لا تقل معاناتها عن الشعب الفلسطيني نفسه، إن لم تكن أزيد. وفي هذه الحالة، لا فرق بين "إسرائيل الصغرى" و"إسرائيل الكبرى" التي مطّها بعض أنظمتنا من "النيل إلى الفرات"، فحققوا شعارها بأيديهم.
عمومًا، عند قيامة الشعوب، وفي يوم الحساب العسير، سيُسأل ذلك السؤال: أتدرون من هو المفلس؟ سيقال حينها إن المفلس من طغاة العرب هو من سرق حرية شعبه، وسطا على حقوقه، وأمعن في دمه سفكًا، وغيّبه في المعتقلات والزنازين، وحرمه من العدالة وفرص العيش الكريم، وحاصره بطوق من الممنوعات والمحظورات، وضيّع عليه فرص اللحاق بقطار العصر، وأسلمه إلى جموع العاطلين من العمل والفقراء، بعد نهب ثرواته و"ثوراته" معًا.
وسيقال أيضًا إن المفلس هو من يغلق مكتب قناة الجزيرة؛ لأنها حقًّا ليست قناة للنفخ والنفاق والتطبيل، وتعظيم "إنجازات" المستبدّين والتسبيح بحمدهم، بل قناة تنحاز للشعوب العربية وهمومها، ولا يضيرها أن يمتزج دمها بدمهم عندما يفلس الطاغية، ولا يجد غير الرصاص ردًّا على المحتجين. آنذاك، لن تنفع هؤلاء "المفلسين" أرصدتُهم وإن عظمت؛ ونياشينهم وإن لمعت؛ لتطهيرهم من دنس خطاياهم، وهول كبائرهم.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.