"وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر"

"وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر"

10 مارس 2019
+ الخط -
في إطار الربيع العربي، والذي خال لبعضهم أنه أُجهِض أو دمّر نفسه أو انتهى، يُثبت الجزائريون أن للشعوب كلاما آخر، وأن المحافظة على الأنظمة الفاسدة و/ أو المستبدّة، كما يحلو لبعض الغربيين أن يراهن عليها، لحماية الاستقرار ومحاربة "الإرهاب"، ليس إلا سياسة قصيرة النظر، تودي، في محصلتها، إلى مزيد من التوتر وانعدام الاستقرار، وإلى إرهاب متجدّد، وإلى موجات جديدة من اللجوء والهجرة، فقد خرج عدد كبير من الجزائريين، على مختلف مكوّناتهم الطبقية أو المناطقية أو الثقافية أو الجندرية أو السياسية، وذلك منذ الأسبوع الأخير من شهر فبراير/ شباط الماضي، وبصورة سلمية رائعة، في تظاهراتٍ احتجاجية ضخمة، للتعبير عن رفضهم ما يُعتَقد إعلامياً بأنه مجرّد عزم الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة الترشح لولاية خامسة. وتتعامل الأجهزة الأمنية والعسكرية بمرونةٍ عالية المستوى، بالمقارنة مع ما جرى ويجري في مراكز احتجاجات عربية أخرى. وقد بدا في بعض هذه المظاهرات أن عائلاتٍ بكامل أفرادها تُشارك، وبطريقة شبه احتفالية، غير مهتمةٍ ببعض بؤر التوتر التي شابت، عفوياً أو قصداً، بعض مسارات الاحتجاجات، مع وجود بعض الممارسات القمعية الخفيفة، ودائما بالمقارنة مع ما حصل ويحصل في بلاد الربيع العربي.
وعلى الرغم من تركيز المتظاهرين على قضية "العهدة الخامسة"، وبالتالي، ونظرياً، حصر مطالبهم في مسألة انسحاب الرئيس المُقعد، والعاجز صحياً عن الحكم، من الحلبة السياسية، وعلى الرغم من أن مراقبين متشائمين يعتقدون أن تركيز الاحتجاجات في هذا الاتجاه يُخشى 
أن يكون مُدبّراً من مراكز قوى جزائرية، لصرف النظر عن مسائل بنيوية هائلة التفسّخ في المنظومة السياسية الجزائرية، إلا أن القراءة المتفائلة للحدث تدفع إلى الاعتقاد، وليس اليقين، بأن الإصرار على استخدام هذا الملف الرئاسي في تأطير التظاهرات وعنونتها ما هو إلا وسيلة عقلانية، لتعرّض أوسع لمجمل المنظومة السياسية/ العسكرية/ الأمنية، بأشكالها وأبعادها وتفرعاتها كافة.
ومن تصريحات المسؤولين الجزائريين، وإصرار الجزء الأكبر منهم على اجترار الخطاب الرسمي العربي المعتاد، والذي يُشير إلى أخطار خارجية ماحقة، تهدّد استقرار البلاد وأمنه، وابتعاد بعضهم عن الاستمرار في تأييد الخطاب الرسمي، يبدو أنه من شبه المؤكّد وجود حالة من التخبّط في مراكز صنع القرار حيال كيفية التعامل مع هذا الملف، بعيداً عن عقلية شيطنته، وتحويله إلى صداماتٍ تستدعي الذكريات الأليمة للعشرية السوداء التي وقع فيها الجزائريون بين سندان الإرهاب ومطرقة القمع. ومع صدور أصوات نشاز تُهدّد بانفلات أمني، وتُحيل إلى تجارب السوريين والليبيين مثلاً، إلا أن الشعور الطاغي هو أن سلمية الاحتجاجات مُتمسّكٌ بها، وأن التوظيفات "الإرهابية"، إن حصلت، ستكون مكشوفة الفاعل هذه المرة، وهو المُتضرّر من أية عملية تغيير سلمي وتحول تدريجي في إدارة شؤون البلاد الجزائرية التي ما فتئت تُدار بطريقةٍ يمتزج فيها الفساد بالقمع لأغنى بلد في شمال أفريقيا، موصلة إياه إلى حدٍّ يُقارب الإفلاس. اقتصاد وطني يعبر في أزمة خانقة، ما يمنع القيادة المهيمنة من اللجوء إلى عملية توزيع الريع لكسب الصوت، أو الصمت، كما اعتادت عقودا، فالصناديق شبه خاوية في ظل الانخفاض الهائل في أسعار الطاقة، مع إدارة سيئة عقودا للدخول المرتفعة التي حصلت عليها البلاد.
النخب المدنية والحقوقية والثقافية الجزائرية قادرةٌ حتماً على استدامة الحَراك الاحتجاجي في أُطره السلمية، إن ابتعدت "النخبة" الحاكمة عن اللجوء إلى العنف. كما ستُفرز الأسابيع القليلة المقبلة أسماءً قياديةً جديدة، أو متجدّدة لتأطير هذا الحراك وتفعيله، بعيداً عن أي محاولة 
للاستقطاب من القوى السياسية التقليدية التي أثبتت فشلها أو انصياعها أو استقطابها.
لدى الجزائريين حساسية عالية تجاه التدخل الخارجي في شؤونهم، حتى ولو كان دعماً معنوياً. وبالتالي، فالدول المؤثّرة، كفرنسا، تنأى رسمياً، وحسناً تفعل، عن التعليق بشأن الملف الجزائري، إلا فيما ندر، إلا أن الإعلام الفرنسي، في المقابل، يُسخّر ملفاتٍ واسعةً ومعمّقةً لمعالجة الوضع الجزائري. ويرقب القادة العرب، بقلقٍ شديد، التحوّلات في الداخل الجزائري، لأن انفجار الشارع الجزائري يأتي لنقض مرحلة الاسترخاء والاطمئنان إلى هلع الشارع العربي من العنف في تجارب احتجاجية أخرى، استطاعت السلطات الحاكمة أو القوى الإقليمية المهيمنة تحويلها إلى نزاعاتٍ وحروب. وقد حاول النظام التخويف من تكرارها في البلاد، حين صرّح رئيس الوزراء، أحمد أويحيى، إنه "يتخوّف من السيناريو السوري في الجزائر". وفي هذه الإشارة استعادةٌ غريبة الوقع، وطريفة التفسير، لما تفوّه به نائب رئيس الجمهورية السابق، عبد الحليم خدام، في أثناء انطلاقة ربيع دمشق في بداية الألفية الثانية بأنه يتخوّف من سيناريو جزائري في سورية. .. منطق الطغاة يُعيد إنتاج نفسه.
الجميع، إقليمياً ودولياً، يُعيد النظر في مسألة "موت" الربيع العربي، لأن الشعب الجزائري أثبت أن نشيده "قسما بالنازلات الماحقات، والدماء الزاكيات الطاهرات، والبنود اللامعات الخافقات، في الجبال الشامخات الشاهقات، نحن ثرنا فحياة أو ممات، وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر"، ما زال حياً "فاشهدوا".