"الساعات الأخيرة".. الابتسار والتحيّز

"الساعات الأخيرة".. الابتسار والتحيّز

01 مارس 2019
+ الخط -
لا يهدف هذا المقال إلى مناقشة تفصيلية لوثائقي "الساعات الأخيرة" الذي بثته قناة الجزيرة، الأحد الماضي، وزعم كشف حيثيات الأيام الأخيرة لرئاسة الدكتور محمد مرسي في مصر، وصولا إلى الانقلاب عليه، مطلع شهر يوليو/ تموز 2013. لكن هذا لا ينفي أن الوثائقي لم يكن بالمستوى الذي توقعه كثيرون، سواء لناحية حجم وعمق الأسرار التي أميط اللثام عنها، أم لناحية تقديم روايةٍ متماسكةٍ لحقيقة ما جرى، على الأقل من زاوية نظر الفريق الرئاسي حينها، والتي من الواضح أنها كانت الهدف المركزي للعمل. أيضا، سقط الوثائقي في فخ تقديم انطباعية متحيّزة عن مرسي ومستشاريه، لناحية زعم انعدام إدراكهم حقيقة ما كان يجري حولهم، إلى أن وقعت الفأس بالرأس. ولعل في الاستدراك الذي كتبه لموقع الجزيرة على الإنترنت، شاهد الوثائقي الأساس، خالد القزاز، سكرتير العلاقات الخارجية السابق لمرسي، ما يُغني عن التفصيل في فجواتٍ كثيرة شابت العمل.
على المستوى التأسيسي، نجح الوثائقي في إعادة تسليط الضوء على تلك المرحلة المفصلية في تاريخ مصر، والمنطقة العربية عموما، فما جرى في صيف عام 2013 في مصر كان تدشينا رسميا لانقلاب موازين القوى لصالح الثورات المضادة في الفضاء العربي ككل. ونجح الوثائقي في تكثيف ذلك الجدل، والذي لم ينقطع يوما، عن مسؤولية الأطراف المختلفة، وخصوصا الإخوان المسلمين، عمّا جرى في مصر، ووأد ثورة يناير. المشكلة أن استعادة ذلك الجدل، أو تكثيفه، وأتحدث هنا بعيدا عن الوثائقي، انطلق من القراءة ذاتها، المبتسرة المتحيزة، والتي تفترض أن الإخوان المسلمين هم المسؤولون، بالدرجة الأولى، عن فشل الثورة في مصر. فرضية يقدّمها أصحابُها على أنها معطى مسلما به، غير قابل للنقاش والتمحيص والفحص، وهذا خلل منهجي، من شأنه أن يسقط أهلية أي بحثٍ أكاديمي معتبر، أو تحليلٍ سياسي جاد.
لست مثاليا. أدرك، أولاً، أن كثيرين منا، نحن كتاب الصحافة العربية، أو المعلقين على الشؤون السياسية، أو المحللين السياسيين، نعاني من الخلل المنهجي الذي سبقت الإشارة إليه، حيث كثيرا ما نلجأ إلى مقدّمات أو فرضيات تدخل في سياق "الحكمة السائدة" التي نُنزلها منزلة الحقائق غير القابلة للنقاش والتشكيك. ثانيا، أدرك أن كثيرين منا ينطلقون من قراءاتٍ متحيّزة، بحيث يصبح التحيّز لقراءة سائدة معيار الموضوعية، وكل من يشكّك في ذلك المعيار المعوج تصبح مصداقيته وكفاءته على طاولة التشريح. وأدرك، ثالثا، أن النقاش في سياق ما جرى في مصر مشحونٌ جدا، فثمَّة غاضبون داخل صفوف "الإخوان" أنفسهم عمّا حلّ بهم بعد الانقلاب، وهم يريدون أحداً يحمّلونه مسؤولية الكوارث التي حلت بهم. وثمَّة، أيضا، من 
أصابهم الإحباط بعد سقوط ثورةٍ مثلت فرصةً تاريخية قد لا تتكرّر قريبا. لكن، ثمَّة فريق ثالث، لا يحرّكه الغضب أو الأسى، إنما محاولة غسل أيديهم من عار وإثم التمهيد للانقلاب وتمكينه والانتكاس بمصر، والمنطقة العربية عموما، بعد أن أعماهم كره "الإخوان" ومرسي، وفضلوا حذاء العسكر ومعسكر الثورات المضادة على لحى "الإخوان". إذا كان الأخيرون قد أخطأوا كثيرا، وهم فعلا أخطأوا كثيرا، فإن هؤلاء ارتكبوا خطيئاتٍ وآثاما مبينة، ويظنون أن بإمكانهم إعادة كتابة التاريخ بإلقاء المسؤولية، حصريا، على عواتق مرسي و"الإخوان".
بعيدا عن الاختلالات المنهجية، وبعيدا عن محاولات تقمّص الموضوعية الزائفة، وبعيدا عن الخضوع لبلطجة أصحاب "الحكمة السائدة"، كان ما جرى في مصر مسؤوليةً مشتركة بين كل القوى السياسية، بكل توجهاتها ومشاربها الإيديولوجية. أخطأ "الإخوان" كثيرا، وأساءوا الحسابات مرات ومرات، وساهم التكلس التنظيمي الذي عاشوه عقودا، بغض النظر عن الأسباب الآن، ذاتية وموضوعية، في النتيجة التي انتهت إليها رئاسة محمد مرسي وثورة مصر. لا أريد تكرار قائمة الأخطاء، فقد كتبت فيها من قبل عبر هذه النافذة، وكتب كثيرون غيري عنها. لا أشك لحظة في أن الرئيس مرسي لم يكن رجل المرحلة، وأن جُلَّ من كانوا حوله لم يكونوا أهلا لها، وأن كثيرين منهم كانوا نتاجا لولاءات التنظيم لا كفاءاته، دع عنك كفاءات مصر. مع ضرورة التذكير هنا بأن كثيرين من تلك الكفاءات إما أنهم زهدوا في المناصب، أو تواطئوا في حصار مرسي، بعدم التعاون معه. ولكن ما سبق لا يعني قدحا في مرسي، وذكائه وكفاءته، بقدر ما أن البنية الصلبة في مصر، وفي المنطقة، التي تشكلت عبر عقود طويلة، وطبيعة التعقيدات والحسابات الدولية وتفاعلاتها، لم تكن في وارد تقبّل رئاسة مدنية شرعية، جاءت بعد ثورة شعبية، في بلدٍ مركزي كمصر، تروم استعادة مكانتها، كثقل عربي وإقليمي متصالح مع ذاته وعروبته وإسلامه. بمعنى أن المشكلة كانت في التغيير نفسه وآفاقه، لا في هوية من تَصَدَّرَ واجهة التغيير رسميا.
من يغمزون من قناة كفاءة مرسي يتحدّثون وكأن الذي جاء بعده بانقلاب دموي، عبد الفتاح السيسي، أبان عن عبقريةٍ فذّة، وذكاء منقطع النظير، وكفاءة في القيادة والحكم تثير حسد الحاسدين! أليس هو الرجل نفسه الذي كلما فتح فمه أثار سخريةً حول بلاهته وسفاهته وجهله؟ هل يشكّ أحد أن السيسي رئيس فاشل ومجرم، فتك بكل معارضيه، بمن فيهم دمى انقلابه، وباع أرض مصر، ورهنها لأطرافٍ إقليميةٍ ودولية، وأفقر شعبها أكثر وأكثر؟ مصر اليوم تحت السيسي مجرّد ملحق في دوائر دولتين إقليميتين، لا تضاهيان مصر وزنا، هما السعودية والإمارات. أما إسرائيل فتلك قصة أخرى، ودع عنك علاقة الارتهان للولايات المتحدة، فتلك حكاية قديمة.
في سياق خلل الابتسار في قراءة المشهد، والانطلاق من فرضياتٍ متحيزة، يتحدث بعضهم عن افتقاد محمد مرسي الدهاء السياسي. أكيد أنه لم يملكه. ولكن لا أحد يريد أن يمضي في استعمال آليات التحليل نفسها ويخضع لها شخصيات، مثل محمد البرادعي، وحمدين صباحي، وعلاء الأسواني، وخالد يوسف.. إلخ. هل امتلك هؤلاء دهاء سياسيا، أم أنهم أبانوا كذلك عن سذاجة سياسية جعلت منهم أدواتٍ في يد العسكر، قبل أن يعودوا ويبطشوا بهم!؟ كانت قوة مرسي في شرعيته، كأول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر، لكن السّفه الإيديولوجي، والحسد والغيرة، ولا شك أخطاء محمد مرسي والإخوان المسلمين، أعموا أعين معارضيه، فكانوا كالثور الأسود الذي تعاون مع الضباع من العسكر الفاسدين لافتراس الثور الأبيض، فكان أن افترسوه هو نفسه بعد ذلك.
أبعد من ذلك، حتى لو كان مرسي داهية سياسية، فهذا لم يكن ليغير من واقع الحال شيئا، حيث لم يملك أسباب القوة في مصر، وضمن التقاطعات الإقليمية والدولية، ولمن ما زال لديه شك فليراجع ما فعله السيسي بشخصيتين نافذتين في المؤسسة العسكرية المصرية، تجرّأتا على 
تحدّيه، أحمد شفيق وسامي عنان. وبالتالي، أي حديثٍ أنه كان على مرسي أن يُقيل السيسي من منصبه وزير دفاع، وقادة المؤسسة العسكرية، عندما أحسّ بغدرهم، إنما هو أضغاث أحلام، فهو كان رئيسا ولكنه لم يحكم، خصوصا في ظل تآمر المؤسسات العسكرية والأمنية والسياسية والإعلامية والبيروقراطية والدينية ضده. لم يكن حينها من خيارٍ أمام مرسي، بل ومصر، إلا إطلاق جبهة وطنية صلبة ضد الثورة المضادة، ولكن أغلب القوى السياسية الأخرى كانت تعيش سكرات البغض للإخوان المسلمين، فذهبت دعوات مرسي إلى الحوار سدى، وغرقت مصر جرّاء التعنت والحماقة، والشروط المسبقة قبل الحوار، مثل استقالة مرسي ابتداء!
باختصار، الكل أخطأ في مصر، مع تفاوتاتٍ في حجم الخطأ. ونعم، لعب الجيش لعبة "خداع استراتيجي"، ولكنه نجح في الإيقاع بالجميع، وليس بمرسي و"الإخوان" فقط. يريد كثيرون أن يتحدثوا عن عارضٍ من عوارض كارثة مصر، ولا يريدون أن يتحدّثوا عن جذر الأزمة. ومثلما أن "الإخوان" في حاجةٍ إلى مراجعاتٍ عميقة، وتحديد المسؤوليات، ومعاقبة المسؤولين، فإن الحركة الوطنية المصرية، كلها، مطالبةٌ بالأمر نفسه. منطق الإقصاء لأي مكون سياسي أو فكري في منطقتنا العربية لن يؤدّي إلا إلى مزيد قلاقل فيها. أخيرا، ثمَّة مفارقةٌ في بنيتنا النفسية كعرب، ينبغي أن تدرس بشكل عميق. تُرانا نلعن لؤم كثيرين من حكامنا وسفالتهم، كالسيسي، ثمَّ نتغنى بـ"دهائهم"! وحتى ذلك الحين، لا يساورني شك في أن مصر ستبقى تأكل نفسها جرّاء انقلاب عام 2013 على مرسي الذي مثلَّ أملا لها، وستبقى، كما جلُّ بلادنا ترفس في أغلال التخلف والجهل والقمع والفساد، حتى نتمكّن من استعادة زمام المبادرة، كشعوب، بنخبٍ، متحرّرة من سفاهات نخبنا، كلها، التي عَرَّتها الثورات العربية الموءودة.