تعديل الدستور ودولة المؤسسات

تعديل الدستور ودولة المؤسسات

28 فبراير 2019
+ الخط -
تقوم أنظمة الحكم الحديثة على بعض المبادئ المشتركة والمتعارف عليها، مثل القانون، والفصل بين السلطات والشرعية، وتداول السلطة. وتقوم الديمقراطية، في الأساس، على فكرة وجود سلطات ومؤسسات مستقلة كل منها عن الأخرى، ثم على مبدأ التوازن بين السلطات، فلا تسيطر السلطة التنفيذية على التشريعية أو القضائية، بل تكون التشريعية رقيبا والقضائية حكما، أما المؤسسة العسكرية والقوات المسلحة فمهمتها حماية الحدود والدفاع عن أراضي الوطن.
ويطلق على مثل تلك الأنظمة مصطلح نظم الحكم الليبرالية، حيث إنها مشتقة في الأساس من عدة نظريات، مثل نظرية الحق الطبيعي ونظرية العقد الاجتماعي. وبشكل عام يمكن القول إن نظام الحكم الليبرالي/ التعدّدي أصبح هو السائد في مقابل نظم الحكم الشمولية التي يسيطر فيها حزب واحد، أو فرد واحد، على جميع المؤسسات، ويفترض أن نظم الحكم الشمولية انتهت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
وبعد معاهدة السلام مع إسرائيل، اتجه الرئيس أنور السادات في مصر نحو المعسكر الغربي، وتبنّى الشكل الليبرالي للحكم، بالمحافظة طبعا على جوهر الحكم السلطوي وحكم الفرد، وهرول وراءه بعد ذلك حكام عرب كثيرون، فالشكل الليبرالي لنظام الحكم هو الذي يضمن استمرار تدفق المساعدات الأميركية، ويعطي أعذارا للإدارات الأميركية، تمكّنهم من دعم المستبدين، على الرغم من منع القوانين الأميركية ذلك. واتجهت إلى ذلك الشكل الليبرالي أنظمة عربية عديدة بعد ذلك، واتجهت له أنظمة حكم عديدة ذات طابع سلطوي في العالم، عبر الاحتفاظ بقشور العملية الانتخابية، أو قشور نظام الحكم ذي الأصول الليبرالية الغربية وشكلياتها، واعتبار أن الصندوق والعملية الإجرائية هو الديمقراطية فقط لا غير، لا مجال هنا في تطبيقنا المحلي لنظام الحكم الليبرالي الغربي في باقي الـ"الباكيج"، لمثل تكافؤ الفرص وحرية الرأي والفكر والتعبير، أو حرية العقيدة أو حقوق الأقليات، إنه نظام الفرد الفرعون ببعض القشور الليبرالية لزوم استمرار المعونات.
نسمع كثيرا لفظ دولة المؤسسات، الذي تم استهلاكه بشكل سيئ، يظهر فقط عندما تكون هناك 
رغبة في تعطيل الأمور، أو إضافة تعقيدات شكلية أو للرد على مطالب غير مرغوب فيها لدى السلطة الحاكمة. ولكن في معظم الأحيان تسيطر مؤسسة بعينها على باقي المؤسسات، فيوجد برلمان، ولكنه سابق التجهيز لضمان أن يكون خاليا من المعارضة، وتوجد سلطة قضائية، ولكن هناك أيضا أدوات للترغيب والترهيب والإحلال والاستبدال. في عهد السادات، كان مصطلح دولة المؤسسات الذريعة التي يتم استخدامها من أجل القمع وترسيخ حكم الفرد، وكان المثال أكبر في عهد حسني مبارك، كان صفوت الشريف (وزير الإعلام في حينه) يستخدم هذا المصطلح كثيرا لتبرير انتهاكات حقوق الإنسان، أو تباطؤ العدالة، أو حكم قضائي ظالم.
وفي التعديلات الجديدة التي سيتم إقرارها في دستور 2014، سيتم ترسيخ سلطة الفرد بشكل أكبر، مع استمرار الادعاء، بالطبع، بأن هذا ترسيخ لدولة المؤسسات، وأنها إرادة الشعب، فبجانب السلطات الواسعة لرئيس الجمهورية دستوريا، وبجانب الاختراقات والتجاوزات غير الدستورية، سيتم إعطاء المزيد من السلطات بشكل أكبر لرئيس الدولة الذي هو رئيس السلطة التنفيذية، ورئيس السلطة التنفيذية له الحق في تعيين رؤساء المؤسسات الرقابية والقضائية، بجانب إضافة وضع خاص جديد للمؤسسة العسكرية، لتكون هي المتحكّم والمسيطر على كل أوجه الحياة السياسية مستقبلا، تحت شعار حماية الدولة وحماية المدنية وحماية الديمقراطية.
تتشابه آراء المؤيدين للتعديلات الدستورية في جوهرها على مر العصور، على الرغم من الاختلاف في التفاصيل. عندما قرّر السادات أن يعدّل الدستور بما يسمح له بالبقاء في السلطة إلى ما لا نهاية، قالوا أيضا إن هذا من أجل حماية الإنجازات العظيمة، وأيضا من أجل تطبيق الشريعة، حيث تم وضع مادة "الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع" ضمن التعديلات، بهدف مغازلة الحس المتدين المحافظ للمصريين. تكرّرت دفوع مشابهة في عهد مبارك عام 2005 و2007، وأضافوا إليها حماية المكتسبات واستمرار الإنجازات. أما في التعديلات الدستورية بعد ثورة 25 يناير، فقالوا إنه، بعد إقرارها مباشرة، سيبدأ الاستقرار ويعمّ الخير البلاد ويتم تطبيق شرع الله. وقالوا الدفوع نفسها عند طرح دستور 2012. وعند طرح دستور 2014، تغيرت الفرق والأشخاص ولكن تشابه الخطاب، الاستقرار والرخاء، وأضافوا إليه بعض المستجدات الإيجابية، مثل زيادة ميزانية الصحة والتعليم. وبالطبع لم يغفلوا ذريعة القضاء على الإرهاب. وعلى الرغم من أن دستور 2014 لم يتم تطبيقه بشكل كامل، وتتم مخالفته منذ يومه الأول، في تجاهل مواد الصحة والتعليم وحقوق الإنسان بشكل عام، ولكنهم أيضا يزعمون أن التعديل ضروري من أجل الحفاظ على الإنجازات والمعجزات غير المسبوقة، على الرغم من أن تلك الإنجازات المزعومة تدور حولها ملاحظات وانتقادات عديدة من المتخصصين.
في الدول الغربية أو الدول التي يمكن وصفها بدول المؤسسات بحق، أيا كان موقعها، هناك مشروع وطني، وخطة طويلة المدى، ومؤسسات مستقلة تعمل على الدراسات والتحليل والمتابعة. دور رئيس السلطة التنفيذية، سواء كان رئيسا للوزراء أو للجمهورية، هو إدارة مؤسسات الدولة التنفيذية، طبقا لبرنامج الحزب أو القائمة أو طبقا لرؤيته الشخصية، ولكن الخطط الاستراتيجية والمشروعات القومية مستمرة، ولا تتأثر بتغير رئيس السلطة التنفيذية. لم نسمع أن هناك دولة متقدمة حاول بعضهم فيها تعديل الدستور بهدف التمديد لرئيس السلطة التنفيذية، بدعوى الانتهاء من بناء سلسلة فنادق أو إنشاء عدة جسور وطرق جديدة، أو كي يتأكد بنفسه من جودة مشروعات الصرف الصحي.
المعارضة في مصر مشتتة ومتناحرة كعادتها، وهذا من عوامل قوة السلطة الحاكمة دائما. 
يطلق أعضاء جماعة الإخوان المسلمين في مصر وفي الخارج اللوم واللعنات على كل من لا يذكر في خطابه كلمة عودة الرئيس الشرعي. وهناك مجموعات يطلق عليها اسم قوى مدنية لا تملّ من الخلاف والنقاش والتخوين المتبادل، على الرغم من قلة الحيلة والهوان، خلاف أيديولوجي حاد، وخلافات تاريخية قديمة، وخلافات في المواقف وخلافات شخصية، بالإضافة إلى النقاش الذي يثار قبل أي عملية تصويت أو انتخاب يشوبها تدخل السلطة: هل نشارك ونفضح من داخل العملية أم نقاطع لنزع الشرعية؟
في الوقت الذي بدأت أجهزة الأمن في مطاردة ودحر أي مبادرات فردية قبل أن تبدأ، بالإضافة إلى التشديد على الزيارات في السجون لبعض القيادات الشبابية، لمنع خروج أي فكرة من داخل السجن، وحملة أمنية للقبض على شبابٍ بسبب مجهوداتهم أو منشوراتهم على شبكة الإنترنت، كما يحدث الآن مع شباب حزب الدستور الذي أسسه محمد البرادعي وبعض المجموعات الشبابية. الواقع مظلم صراحةً، مجهودات متناثرة وآراء متعارضة، قمع وخوف يسيطر على قطاعات واسعة، عزوف وفقدان للأمل وللمعنى.
وأخيراً، لا أميل للمقاطعة في كل الاستحقاقات الانتخابية التي شاركت فيها بشكل أو بآخر منذ عام 2005، فالمقاطعة بزعم نزع الشرعية مجرد تسجيل موقف، بهدف التطهر والتبرؤ مما يحدث، بالإضافة إلى أنها لا تنزع شرعية الأمر الواقع، ولا تؤثر كثيرا على الاعتراف الدولي الذي تحكُمه المصالح الاقتصادية والعسكرية. أنتصرُ للمشاركة عموما والاشتباك مع الواقع من داخله، والمشاركة بالتصويت بـ لا هذه المرة، ومحاولة إيصال الصوت إلى أكبر قدر ممكن من الناس، وفي هذا نقاش آخر.
DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017