عقوبة الإعدام بين العدالة والانتقام

عقوبة الإعدام بين العدالة والانتقام

27 فبراير 2019
+ الخط -
ترك توماس مور، في العام 1516، الباب مفتوحا على آراء متعارضة، حين ناقش في كتابه "يوتوبيا" جدوى عقوبة الإعدام، بينما حاول عمانوئيل كانط ( 1724 - 1804) حسم الموضوع، حين أكد أن الموت هو أكثر عقوبة قانونية مطلوبة أخلاقيا لمعاقبة كل مجرم. أما الأرضية التي انطلقت منها المعارضات الحديثة لعقوبة الإعدام، في العام 1764، فكانت كتاب سيزار بيكاريا "عن الجرائم والعقوبات" الذي حاول فيه إثبات عبثية هذه العقوبة، وما فيها من ظلمٍ يتعارض ودولة رعاية قائمة على الرفاهية، والدعم الاجتماعي لجميع مواطنيها.
الصعق بالكهرباء، الرمي بالرصاص، الرجم، قطع الرأس بالسيف، الخنق بالغاز، الشنق، الحقنة المميتة، وغيرها، جميعها وسائل لإعدامٍ يرى فيها مؤيدوه تأكيدا على حق الحياة عن طريق معاقبةٍ صارمةٍ لمن ينتهكونها، لكن معارضيه يرون فيها منتهى الانتهاك لهذا الحق، إذ لا يعدو البحث عن وسيلة "إنسانية" لقتل الناس أن يكون محاولةً بائسة لجعل حكم الإعدام مستساغا من الشعب الذي يُنَفَّذ الحكم باسمه. هناك فرقٌ بين العدالة والانتقام؛ فإعدام شخصٍ لأنه أهدر حياة شخص آخر يعد انتقاماً، وليس عدلاً.
، حين تحرم المجرم فرصة تصحيح أخطائه. أما جورج أورويل فحاول في مقاله (A Hanging) المنشور في 1931 وصف معاناة من يضّطرون، بحكم أدائهم الواجب، إلى المشاركة في إنهاء حياة شخص، أو على الأقل أن يكونوا شاهدين عليه. تلك التجربة التي خبرها شخصيا حين كان شرطيا في بورما، متسائلا عن الحكمة في إنهاء حياة شخص مثلنا يعجّ بالحياة، ورأى أنه لخطأ فادح إنهاء حياة شخصٍ في ريعان قوّته. ويعتقد آرثر كوستلر أن الإعدام ليس عقوبة رادعة، تحول دون تكرار آخرين الجريمة، ففي العصر الذي كان فيه النشالون يُعدَمون في إنكلترا، كان لصوص آخرون ينشلون الجمهور المحتشد حول المشنقة التي يُشنق عليها زميلهم.
ويُعنى ألبير كامو في "المقصلة" بتفنيد حجج المتمسّكين بعقوبة الإعدام، سيما حجة الردع.
يذهب إلى أنّ مشرّعي هذه العقوبة يركّزون انتباههم فقط على غريزة الحياة، ويهملون غريزة الموت، ممثلةً في الميل إلى هدم الذات، ناهيك عن المشاعر المختلطة التي تطغى على تفكير البشر في الموت والرهبة منه، لا سيما الثأر المرتبط بثقافات الشعوب، وشريعة "العين بالعين" التي لا تتفق مع القانون الأعلى؛ الذي وجد أساسا لإصلاح طبيعة البشر، وتنظيمها، وليس لاستنساخها وتقليدها، فلا يمكن أن يكون القانون استكمالا للطبيعة البشرية، وإلا لكان أقسى منها، وأكثر ظلما.
يتنبه كامو إلى أن الإعدام بوصفه عملية ثأر يُعاقِب مرّتين، وليس ذلك من العدل؛ فالمحكومُ بالإعدام يُعدَم مرة حين تُختَطَف حياته، ومرة حين يهدمه الانتظار قبل تنفيذ العقوبة، ولم تزعم شريعة "العين بالعين" أنه ينبغي فقء كلتا العينين، لمن عوّر عينا لأخيه. الظلم في تنفيذ هذه العقوبة كامن في انتقالها من الجاني إلى طرف آخر ليس له علاقة بالجرم، فأهل المحكوم سيعانون طوال فترة انتظار تنفيذ الحكم، الأمر الذي لم يحدث مع أهل الضحية، قبل فقدانهم ابنهم. أما الطامّة الكبرى، فحين تتأكّد براءة أحد المحكومين بعد إعدامه. وبدل أن نحرم شخصا من التكفير عن ذنبه بعقوبةٍ مطلقةٍ لا رجعة فيها، يمكن استبدال تلك العقوبة بالمؤبد، فالعزلة وتأنيب الضمير عقوبة مناسبة، شرط أن تحافظ السجون على دور إصلاحي، لا أن تكون مجرد مؤسساتٍ قائمة على التعذيب وهدم الإنسان.
تبنت آراء كامو منظمات إنسانية وحقوقية عديدة، في مقدمها منظمة العفو الدولية التي رأت في عقوبة الإعدام انتهاكا لأهم حقّ من حقوق الإنسان الأساسية، وهو الحق في الحياة. ورأت فيها أقصى عقوبةٍ بين العقوبات القاسية، واللاإنسانية، والمُهينة. وفي العام 1981، تبنّى الحزب الاشتراكي الفرنسي هذه الرؤية في برنامجه الانتخابي، وتم وقف العمل بهذه العقوبة في عهد الرئيس الفرنسي، فرانسوا ميتران. ويعدّ وقف العمل بعقوبة الإعدام شرطا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ليبدو تطبيق العقوبة اليوم في تراجع. وبيّن تقرير الأمين العام للأمم المتحدة المقدّم إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للمنظمة الدولية في سبتمبر/ أيلول 2018، أن نحو 170 دولة أبطلت عقوبة الإعدام، أو أوقفت تنفيذها، سواء بالقانون، أو الممارسة، أو علّقت تطبيقها عشر سنوات.
من غير المرجح أن يمنع التهديد بالإعدام أشخاصا مستعدين للموت من أجل معتقداتهم، ففي
 حالة منفذي العمليات الإرهابية الانتحارية، لن يضير الشاة جلدها بعد ذبحها. ومن المرجح بالقدر نفسه أن يصنع الإعدام شهداءً تصبح ذكراهم رمزا ذا مغزى عميق، فلم يردع إعدام سيد قطب أنصارَه فكرا وسياسة، بل كان مزيد منهم مستعدا للتضحية من أجل "الحاكمية" التي أصبح قطب نفسه أيقونةً لها، ولم يردع إعدامه، مثلا، صالح سرّية من وضع نهج عملي انقلابي لتطبيق أفكار قطب، حين قاد العملية العسكرية التي فشلت في إطاحة الرئيس أنور السادات. ولم يمنع إعدام قطب وكيل النيابة، يحيى هاشم، أن يضحي بحياته ومنصبه لصالح مغامرة فاشلة لإنقاذ سرّية ورفاقه. كل تلك الإعدامات التي نفّذت في عهد السادات لم تمنع جماعة الإسلامبولي من اغتيال السادات نفسه، على مرأى من جيشه وكبار ضباط أجهزته الأمنية والعسكرية.
باستثناء الجزائر، لا تزال الدول العربية تطبّق عقوبة الإعدام التي ازدادت وتيرتها مع قوانين مكافحة الإرهاب، وتحولت إلى غطاء سياسي سهّل تصفية معارضين بعد محاكمات شكلية، أو جائرة، أو بدونها، وبناء على اعترافاتٍ انتزعت تحت وطأة التعذيب. ونُسفَت أبسط معايير النزاهة القضائية، حين أصدرت محاكم خاصة أو عسكرية أحكاما بالإعدام بحق مدنيين. وغالبا لا يحصل المتهمون بالإرهاب على فرص عادلةٍ للدفاع عن أنفسهم في تلك المحاكمات الهزلية والاستعراضية (الحالة المصرية الراهنة نموذجا)، طالما كان قرار الإدانة انتقاما سياسيا، وليس حكما قضائيا.
الإرهاب ظاهرة، وليس مجرد جريمةٍ مقطوعة عن سياقاتها الاجتماعية والنفسية والسياسية، يتورّط في تأجيجها استبداد النظام السياسي وفشله في إدارة المجتمع، وعنف السلطة الفاقدة للشرعية المصرّة على انتهاك الدساتير، والتلاعب بمعيشة المواطنين وأرواحهم. لقد بات إلغاء الإعدام مدعوما بنقاش منظّم وموجه بشأن أبعاد تلك العقوبة، الإنسانية والحقوقية والسياسية، مطلباً ملحاً اليوم في مواجهة الاستبداد الذي يستغل تلك العقوبة أداة للقمع مُثلى، وعلى نحوٍ غير مسبوق، بعد أن اهتزت أركانه من المحيط إلى الخليج، ما زاده شراسة وعنفاً.
حسام أبو حامد
حسام أبو حامد
كاتب وصحافي فلسطيني. من فريق موقع العربي الجديد قسم السياسة.