هل انتقلنا إلى عصر "ما بعد الغرب"؟

هل انتقلنا إلى عصر "ما بعد الغرب"؟

31 ديسمبر 2019

(Getty)

+ الخط -
كثر الحديث أخيرا عن نهاية عصر العم سام، وصعود التنين الصيني، إلى جانب الدبّ الروسي. وذهب مؤرخون وباحثون إلى حد الجزم بانهيار الغرب وحضارته، ثم جاء دور السياسيين، حيث صرح وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، صيف السنة الماضية، بأن العالم يعيش مرحلة "ما بعد الغرب"، والتي تشكل فيها كل من الصين والهند والبرازيل مراكز سلطة اقتصادية ومالية وسياسية أخرى، من دون أن يأتي على الدور الرئيس لبلاده في هذا المحور. وخلُص الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في مؤتمر لسفراء بلاده، في أغسطس/ آب الماضي، إلى "نحن نعيش بدون شك حقبة تمثّل انتهاء الهيمنة الغربية على العالم".
مع ذلك، يصعب التسليم بنظرية "نهاية الغرب" من دون طرح مثل هذه الأسئلة الملحة: ماذا نعني بالغرب؟ وهل يُعقل أن ينهار هذا الغرب في وقتٍ تناضل فيه الشعوب العربية من أجل القيم التي اقترنت به، مثل الحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون؟ وكيف يمكن للغرب أن ينهار من دون تفكيك المؤسسات التي سهّلت هيمنته على العالم، وفي مقدمتها الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو) وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية؟ وهل حقا يعتبر صعود الصين وروسيا انتقالا إلى عالم "ما بعد الغرب"؟
يجد مفهوم "الغرب" جذوره التاريخية في العالم الإغريقي- الروماني في أوروبا، المتشبع بالتراث اليهودي والمسيحي القديم. ومع حلول عصر النهضة الأوروبية، اقترن المصطلح بالأمم المسيحية في غرب أوروبا التي فرضت نفسها على العالم في أعقاب معاهدة صلح
 "وستفاليا" عام 1648، فبالإضافة إلى وضع حدٍّ لثلاثين عاما من الحروب الدينية، رسمت الاتفاقية خريطة جديدة لأوروبا الوسطى، وأرست نظاما جديدا يقوم على سيادة الدولة الوطنية. انتشر نمط هذه الدولة الحديثة إبّان فترة الاستعمار الأوروبي، وازدادت هيمنة الغرب مع بروز الولايات المتحدة قوة عظمى في أعقاب الحرب العالمية الثانية. ولعل أهم ما يميز الغرب الأورو- أميركي ازدواجيته، ففي وقتٍ كان يعمل فيه عبر الأمم المتحدة و"المنظمات غير الحكومية" على تدويل مبادئ حقوق الإنسان والديمقراطية وسيادة القانون وحق الشعوب في تحقيق مصيرها، كان الغرب يفرض على الدول النامية تحرير اقتصادها وفتح أسواقها، ويسلبها شيئا فشيئا سيادتها على أوطانها، ويلوي أيدي حكوماتها، كي يمنعها عن التدخل في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية في بلدانها. ولقد أحكمت أميركا قبضتها على العالم، منذ اتفاقية بريتون وودز عام 1944 التي أسّست لنظام نقدي حديث، فرض الدولار عملة مرجعية وأنشأت البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وتعزّزت هذه الآليات بإنشاء منظمة التجارة العالمية التي كرّست ظاهرة العولمة، وأفقدت الدول النامية سيادتها على أوطانها.
ولقد أحكم الغرب سيطرته على الدول التي كانت تظنّ أنها حصلت على استقلالها بتسهيل قروض باهظة لحكومات دكتاتورية، أدّت حتما إلى فرض "إصلاحاتٍ هيكلية"، صاحبها 
إضعاف دور الدولة في الشأنين، الاقتصادي والاجتماعي، والدفع بها نحو تحرير التجارة وحركة رؤوس الأموال وخصخصة وسائل الإنتاج والخدمات. هكذا تبنّت الدول النامية تخفيض الإنفاق العامّ على الصحة والتعليم والخدمات الأساسية، وتخفيض الضرائب على الأغنياء والشركات الكبرى في مقابل إلغاء الدعم الذي كان يقدّم للمنتِجين والبضائع الأساسية. ونتيجة لهذه السياسات، نجح الغرب في فتح الأسواق العالمية للشركات متعدّدة الجنسية لتصريف إنتاجها ونهب موارد الشعوب واستغلال اليد العاملة الرخيصة.
هنا يكمن دهاء الغرب الذي يخفي فساده في لغته التي تعني عكس ما تقوله وتدعيه، فـ "التحرير"، في قاموس الغرب، يعني الاستعباد، و"الإصلاح" يعني إفساد ما كان صالحا و"التثبيث الهيكلي" يعني تخريب مؤسسات الدولة وهياكلها. أما "الحريات الفردية" في هذه الدول، فقد فقدت شيئا من معناها في ظل شبكات التجسس، وفرض الرقابة على الأفراد. ولقد تنبأ الكاتب الإنكليزي، جورج أورويل، بالفساد الأخلاقي الغربي في رواية صدرت له عام 1949 بعنوان "1984"، طرح فيها تصوّره لحكومة وأحزاب طاغية، شمولية، وعدائية تعني عكس ما تقوله. ولخّص هذه الازدواجية الخطيرة في شعار "الحرب هي السلام، الحريّة هي العبوديّة، الجهل هو القوّة".
وواضح أن قناع الغرب الإمبريالي آخذ في السقوط، إذ بدأت الشعوب تدرك أن الثروات قد تكدست في القمة في يد النخبة، ولم تتساقط إلى الأسفل، وأن القاعدة ضحيّةً تواطؤ حكوماتها مع نظام عولمةٍ أفقد الفرد حرياته، وسلب الدول سيادتها. نظام أفقد الإنسان احتياجاته الأساسية من سكن وغذاء ورعاية صحية وتعليم وحرية وعدالة وسلام وبيئة نقية وآمنة. وقد تجلّت همجية الغرب في تخريبه البيئة وإغراق الأسواق بأسلحة الدمار الشامل، وتأجيجه حروبا تعود
 على الدول المصنعة وشركاتها العملاقة بمئات المليارات.
في ظل ما جنته الشعوب من فساد النظام الإمبريالي الجديد، يشهد العالم احتجاجاتٍ عابرة للقارات، من باريس ولندن وهونغ كونغ إلى كولومبيا والإكوادور وتشيلي، مرورا ببيروت وبغداد والجزائر وهايتي. تعبّر الشعوب عن سخطها على فساد النظام الليبرالي المتوحش الذي فرضه الغرب، بعد أن أدركت أن الرابح الوحيد من العولمة التي أحدثت انقلابا في هياكل الاقتصاد والمجتمع هو الشركات العظمى والنخب السياسية الفاسدة التي تخدم مصالحها في الداخل. ولكن هذه الاحتجاجات لم تصل بعد إلى درجة المطالبة بزوال مؤسسات هيمنة الغرب وآلياتها على العالم، فما زال الدولار سيد الصرف النقدي، وما زال صندوق النقد الدولي يتحكّم في اقتصادات الدول المستدينة، وما زال عمالقة السلاح يجلسون على عرش مجلس الأمن الدولي، وما زالت الديمقراطية والحريات الفردية وغيرها من القيم الغربية الأكثر إغراءً في منطقتنا.
يوضح هذا كله أننا لم ننتقل إلى عالم "ما بعد الغرب". كل ما هنالك أن العالم يشهد تنافسا بين أميركا والصين وحلفائهما للهيمنة الاقتصادية والسياسية على العالم، في أعقاب انهيار نظام "القطب الواحد" الذي انفردت فيه أميركا بالسيطرة على الساحة الدولية عقدين بعد نهاية الحرب الباردة. والأهم أن جمهورية الصين الاستبدادية، كما يعرفها العالم اليوم، خرجت من رحم النظام الرأسمالي الغربي، وهي الآن تحارب من أجل زعامته، فالصين عضو دائم في مجلس الأمن الدولي وصندوق النقد والبنك الدوليين، ومنظمات راعية لنظام العولمة الغربي. تغزو الأسواق الخارجية وتُغرقها ببضائعها، وتستنزف نفطها ومواردها وتخطط لمشاريع إمبريالية تجارية جديدة، مشروع "طريق الحرير" الجديد من أهم محطّاتها.
كل ما يميز هذه الإمبريالية التجارية الجديدة، وأهم حلفائها في روسيا والهند، أنها لا تتبنّى ازدواجية الغرب، ولا تعترف بالديمقراطية وحقوق الإنسان والحفاظ على البيئة، وغير ذلك من مقومات مشروعه الحضاري الذي ما زال جزء من العالم يطمح إليه، فإذا كُتب للصين أن تسيطر على كوكب الأرض، سنشهد عندها حقبة ما بعد الديمقراطية، وهو ما يجعلها حليفا مريحا للحكومات العربية المستبدة.
D3DB8A51-4A38-4CFE-8FF7-F3890E6C424F
D3DB8A51-4A38-4CFE-8FF7-F3890E6C424F
عائشة البصري
كاتبة وإعلامية مغربية، ناطقة سابقة باسم بعثة الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور وحائزة على جائزة رايدنهاور الأمريكية لكاشفي الحقيقة لسنة 2015.
عائشة البصري