الثورة اللبنانية ومسامير الصفقة والطوائف

الثورة اللبنانية ومسامير الصفقة والطوائف

26 ديسمبر 2019
+ الخط -
الصفقة التي جاءت بالوجه المطلوب لرئاسة حكومة منع الانهيار في لبنان كانت ضربة معلّم من زوايا لا تُحصى. طبعاً أظهرت للمرة الألف أن الصراع بين أهل السلطة الواحدة لا يمتّ بصلة إلى الثورة التي اندلعت بوجوههم، إلا من باب المزايدة الإنشائية، فكما نعلم، كانت كلماتهم كلها، من دون استثناء، تطْنب في أن مطالب الثوار محقّة، وبأنهم سبقوها في المطالبة بكذا أو كيت من الإصلاحات، ومحاربة الفساد.. إلخ. ولكن بدا، منذ تكليف الوجه الشاحب، بتشكيل حكومة جديدة، أن لعبتهم بلغت ذراها، فكان الانتصار واضحاً للطرف "الأقوى" من أولئك الأهل، أي طرف الممانعة بقيادة حزب الله، وشريكَيه الكبار، من حركة أمل، نبيه برّي، والتيار العوني، جبران باسيل؛ بل ربما من تدبّر هذا الأخير ومناوراته وخصوبة الشرّ في مخيلته، وبعضهم يقول "ذكائه".
والطرف الأضعف هذا، أي سعد الحريري ووليد جنبلاط وسمير جعجع وأمين الجميل، لم يُحسِن المناورة، أو القراءة؛ أو خانته "موازين القوى"، فكانت نافذة الأربعة، أو مصدر إنعاشهم الاستفاضة بمطالب الثورة، وفضيلة "المعارضة" للحكومة الآتية. كلٌ بدرجته، وحساباته وتوقعاته؛ فالاثنان الأخيران، جعجع والجميل، سبقا الإثنين الأولين، الحريري 
وجنبلاط، إلى ساحات التظاهر والاعتصام. والأربعة قالوا كلامهم المعسول عن الثورة، هي التي ساوت بينهم جميعاً: فضيحة مالية تنْطح أخرى، مع اختلاف الأعْيرة والأوزان بينهم. وهؤلاء بالذات، بصفتهم من المعسكر المعادي لمحور الممانعة، راهنوا، كلٌّ بدرجة إدراكه، بأن الأميركيين سوف يتدخّلون في الدقيقة الأخيرة من أجل إنقاذهم من مخالب الممانعة وشكيمتها، وصواريخها الدقيقة (ربما جعجع وحده علم بحقيقة الموقف الأميركي، بالبصيرة أو بالتسريب، فساهم بذلك في إلغاء الحريري من التسمية). وما ساهم في ترسيخ هذا "الأمل الخارجي" وقوعهم في المدار الأميركي، المقابل للمدار الإيراني، حيث يُرابط خصومهم من الممانعين. وهي مرابطةٌ سهّلت على الممانعين إلصاق تهمة العمالة للسفارة الأميركية بحق الثوار، بعد الأيام الأولى لنزولهم إلى الساحات، كما تسهّل تعاملهم مع المختلفين معهم.
في لحظات معيّنة، كان الاطمئنان واضحاً على خلْقة الخاسرين من الصفقة المعلّبة التي أصعدت حسان دياب إلى موقع التكليف بحكومة جديدة. في سرّهم كانوا يظنّون أن المسؤول الأميركي الزائر، ديفيد هيل، سوف يقول إن هذه حكومة حزب الله، وأنه غير راضٍ عنها؛ فيكون ثمة كباش جانبي، هو امتداد للمعركة الباردة - الساخنة الأميركية الإيرانية، في واحدةٍ من ساحات مواجهتهما.
ولكن لا. الأميركي طبْطب على أكتاف أصحاب الصفقة. قال ما يُفهم منه إنه غير غاضبٍ من هذه الطبخة، إنه لا يتدخل في التأليف والتكليف. وإنه مهتم بالاستقرار وبتلبية مطالب "الحِراك". أي موقف إيجابي، ولو نسبيا، شكّلَ ضربة سياسية ومعنوية لتلك الأطراف 
السلطوية المغلوبة، المحسوبة مبدئيا على الأميركيين. وربما، من قلب الثورة ذاتها، وُجِد من يصغي إلى المندوب الأميركي وهو مرتاح، خصوصاً أن "وجوها"، شاركت في هذه الثورة، وربما لم تشارك، تسرّبت أسماؤها مرشّحة لهذه الوزارة أو تلك، "ممثلّة للحراك"، ثم زارت بعض "شخصياتها" الرئيس المكلّف في منزله، إفرادياً، وأحيانا تهريباً، أو تخفّياً.
حتى هذه اللحظة، يبارك الأميركيون الصفقة، وديباجتهم تقول بإعطاء "فرصة جديدة" لأهل الفساد الأقوى بأن يديروا ويصلحوا، بالعدّة نفسها. لكنهم في الآن عينه، لقّنوا الثورة درساً في الجيو استراتيجيا، فهم غير مهتمين إلا بصياغة علاقتهم مع إيران بما يلبّي مصالحهم المباشرة. من دون نهج، أو فكرة، أو طريقة. بلا خطط، بلا استراتيجيا، بلا قيم، بلا مساعدات، بمباحثات سرية، بحلفاء متقلّبين، بخطابٍ مضطرب، طالع نازل، بواسطة سلطنة عُمان أو اليابان.. المهم بسياسة لم تعد تُفهم، في منطقتنا، إلا عبر قضيةٍ واحدة: أمن إسرائيل.
صحيحٌ أن هذه خسارة تعدّ لناحية كسب الأصدقاء أو الحلفاء، ولكنها مفيدة من زاوية الثوار: فـ"الواقعية السياسية" (أو "البراغماتية") الأميركية، بموقفها هذا، منَحت الثورة صكّ البراءة النهائي من تهمة التعامل والتآمر مع الأميركيين المتآمرين. السلطة هي المدعومة من الخارج، وهي التي تستنجد به، وبأطرافه المتناقضة لتثبت حكم الفاسدين وترسّخه، ولتفرض دورة الإفقار والتدمير المتواصل لعيشنا. الثورة الآن وغداً نظيفة. ولا يضعفها المتسلقون المستوزرون.
وإذا لم ينقلب الأميركيون على شركائهم الجُدد من الممانعة، كما عهدوا مع حلفائهم القدماء، فسوف تكون الثورة أمام ديناميكيتين جديدتين: الأولى انضمام شقّ من السلطة إلى المعارضة؛ استعادة لرصيدها الشعبي الذي بلغ مع بعضهم حضيضاً. والثورة سوف تلتقي مع بعض 
مواقفهم. لكنها لن تمتزج بهم، لأنها ثورة، وهم سعاة تثبيت زعامة، أو إنعاشها. والحركة الثانية ستكون تَفرّق أهل الثورة. فمن الآن، مع المشاورات المغْلقة التي يقودها الرئيس المكلف، حسّان دياب، بدأت تطلع أصوات المتسلّقين، الداعين إلى "إعطاء الحكومة الجديدة فرصة الإصلاح والإنقاذ المالي". وهذا خيرٌ للثورة مما كانت عليه في أولها، تفرز بموجبه بين غثّها وسمينها.
أما الطوائف، فكان آخرها السنّة. خرجت جماهيرها الطائفية إلى الشارع احتجاجاً على عدم تكليف سعد الحريري بتشكيل الوزارة. وكانت في حركتها تقلّد الثورة بحدود. يتجمهر أفرادُها في الطرقات، يقطعونها، يحرقون الدواليب، يهتفون بشعارت الثورة "سلمية! سلمية!" عند اقتراب تدافعهم مع القوى الأمنية. ويردِّدون أحياناً "ثوار أحرار حنْكمل المشوار!"؛ والأرجح أن عدداً منهم اشترك في تظاهرات الثورة. ولكنهم لا يختلفون كثيراً عن تحرّكات الجماهير الطائفية الأقوى، الشيعية. إذ بدوا وكأنهم يقلّدونها؛ عبارات "المارد السنّي"، المستيقظ على مظلوميته، يحاكي، "انتصار" المارد الشيعي. يقلّدون الجماهير الطائفية الشيعية، لكنهم أقلّ خبرة منها في التنظيم والتأطير والأدْلجة العقيدية؛ ولأنهم محبَطون، يصدر عنهم رد فعل، أكثر من فعل. فيما جماهير الطائفة الشيعية، عقيدية، منظّمة، فاعلة، مبادِرة.
والسنّة الطائفيون يعبدون زعيمهم، كما يعبد نظراؤهم زعيمهم. مقابل ميشال عون، مقابل حسن نصر الله المقدَّس اسمه، سعد الحريري أيضا له مكانة سماوية "الله، حريري، طريق الجديدة!". وتسايرهم القوى الأمنية كما تساير جماهير الطوائف الأخرى. لم يدخل أحد منها السجن، على الرغم من الاعتداءات، وعنف بعضها. وهم، أي جماهير السنّة، مثل جماهير الشيعة، لا يعرفون معنى أملاك عامّة، طرقات ومصابيح وأعمدة وسيارات. على الرغم من تفاوت العنف بين الإثنين. وقد يكون الطائفيون السنّة استعاروا منهم أيضاً فكرة الدرّاجات النارية، على امتداد الشوارع، وفي أوقات الليل، والصراخ، "حريري.. حريري"، كما لو كان الحريري هويتهم. فيما أشباههم من الشيعة كانوا يطلقون الصفة التي قدّموا أنفسهم بها إلى مشاهديهم ومستمعيهم "شيعة شيعة". والفرق كبير بين هويتَي "شيعة" و"الحريري".
المهم بالنسبة للثورة أننا أمام مشهد جديد. متظاهرو اللحظة الأخيرة من السنّة أربكوا الثورة، فتأجل ردّها على حكومة "اللون الواحد"، فتظاهرة أول من أمس اختلطت فيها الجماهير الطائفية بجماهير الثورة. قد لا تكون هذه آخر تظاهرات الثورة، وقد تختلط لاحقا في تظاهراتها وفعالياتها مع جماهير طوائف أخرى، درزية ومارونية، لم يُعلى شأن طائفتها.
كانت ثورةً بالمقاييس اللبنانية الخالصة. لا بلشفية، ولا انقلابية، ولا غيفارية، ولا "مخْمَلية". ثورة عربية لها خصوصيتها: ومكْمن ثوريتها أنها أوجدت حالة واحدة، ديناميكية واحدة عابرة للطوائف. هي التهديد المباشر للكيان الطائفي، السلطوي، القائم في لبنان منذ نشأته، أي منذ مئة عام. هدّدت الجذور العميقة لهذا الكيان. ولن تنتصر بالضربة القاضية، كما لا يحصل في معظم الثورات. إنما بنبش هذه الجذور وتفْكيكها، بحيث تتكوّن في أثناء النبش بذور جديدة، نظيفة... مع الوقت. فلنعط للوقت وقتاً.