كي لا تأكل الثورة أبناءها

كي لا تأكل الثورة أبناءها

02 نوفمبر 2019
+ الخط -
بعد أن حقق الحراك الشعبي في لبنان أول إنجاز له من خلال تقديم رئيس الحكومة اللبنانية، سعد الحريري، استقالته، يواجه اليوم أصعب وأخطر تحدّ له. الحراك الذي بدأ مطلبياً وتحوّل إلى حركة احتجاج شعبية عارمة عابرة للطوائف والمذاهب والمناطق، وبقي سلمياً على الرغم من التحريض والاستفزازات ضده، يواجه اليوم من جديد خطر ضياع الإنجازات التي حققها نتيجة اشتداد حدة الخلافات السياسية، وعودة الاصطفافات الحزبية، وتأجيج الحساسيات المذهبية، في ضوء الخلاف على تسمية رئيس الحكومة المقبل، وهوية وزرائها، ناهيك عن الصراع الشرس الذي يخوضه العهد وحليفه الأكبر حزب الله من أجل الاستمرار بالاحتفاظ بالسيطرة السياسية والأمنية الكاملة على هذا البلد.
طوال الأيام الماضية، شهدت حركة الاحتجاج الشعبي هجمة كبيرة عليها من قبل أطراف سياسية اعتبرتها خطراً عليها لأسباب مختلفة. حزب الله مثلاً، شكك بالحراك وحذّر من استغلال جهات معادية، وعلى رأسها إسرائيل، لهذا الحراك لإضعاف نفوذه وتوجيه ضربة له. وحركة أمل التي يتزعمها رئيس مجلس النواب، نبيه بري، تخوفت من خروج جمهورها التقليدي عن نطاق همينتها الحصرية، وهاجم أنصارها المعتصمين وضربوهم. والتيار العوني خاف من تشرذم قاعدته الشعبية جراء موقفه المعادي للحراك، وحوّل المسألة إلى صراع مع الحراك ودفاع عن عهد الرئيس، ميشال عون، ورئيسه وزير الخارجية، جبران باسيل الذي كان الشخصية الأكثر تعرّضاً للانتقادات والتهجمات والشتائم. وفي اليومين الأخيرين، طرأ تبدل إضافي على مشهد المعارضين للحراك، مع انضمام أنصار الرئيس الحريري إلى دائرة المعترضين على استقالة زعيمهم، وتحميل الحراك مسؤولية إضعاف زعيمهم، وتهميش دوره السياسي.
ونظراً لأن الجرثومة الطائفية في لبنان متغلغلة عميقاً في جسد هذا الوطن الذي أنهكته الصراعات والحروب الطائفية، فإن المخاوف من عودتها كبيرة. لذا فإن المسؤولية الملقاة على عاتق ناشطي الحراك اليوم أكبر بكثير من أي وقت سابق.
يحتاج هذا الحراك اليوم، قبل كل شيء، إلى من يترجم لاطائفيته ولاحزبيته وعدم وقوفه إلى جانب طرفٍ سياسي ضد آخر إلى مواقف عملية على الأرض. لم تعد النقاشات والحوارات النظرية لشرح
 مواقفه ومطالبه وحدها كافية، ولا النقل المباشر لمطالب المحتجين، هو اليوم بحاجة إلى نقلة نوعية، وإلى تقديم إجابات فعلية ترد على مخاوف جماهير الطوائف اللبنانية التي تعيش المعاناة عينها مع جمهور المحتجين، لكن الولاء للزعيم والقائد يبقى هو الأهم والأقوى. المطلوب من ناشطي الحراك كسب ثقة هذا الجمهور، وأن يبرهن لهم قدرته على تحقيق التغيير الاجتماعي المطلوب. ناشطو الحراك مطالبون اليوم بأن يكونوا أكثر انتباهاً لعمليات التحريض والتجييش التي يخضع لها جمهور الفريق الآخر، والعمل على تفنيد مخاوف هذا الفريق وإثبات قدرة حراكهم على تلبية آمال كل الناس حتى الذين لم يكونوا طرفاً فيه، والأهم عدم شيطنة هذا الفريق كما يفعل أعداء الحراك. على سبيل المثال، إغلاق الطرقات الذي شكل أداة ضغط مهمة وأثبت الامتداد الجغرافي للحراك في كل المناطق اللبنانية، استنفد دوره، ويجب بسرعة البحث عن وسائل ضغط أخرى أكثر ملاءمة للواقع الفعلي ولحاجات اللبنانيين كلهم، بعد مرور 14 يوماً على الشلل التام للحياة الطبيعية في البلد.
ليس من السهل على حراك شبابي عمره أسبوعان أن يتصدى للمنظومة السياسية عميقة الجذور القائمة حالياً، ويجب الاعتراف بأنه من أجل الخروج من المأزق السياسي الذي يمكن أن ينشأ جراء صعوبات تشكيل حكومة تلبي تطلعات المحتجين من خارج الطاقم السياسي الموجود، هل يفكر ناشطو الحراك بآليات نشاط مختلفة، منها فتح قنوات حوار علنية مع الطرف الأقوى الذي يقبض على الحياة السياسية في لبنان، أي حزب الله؟
يحمّل المسؤولون في حزب الله الحراك مسؤولية انهيار الاستقرار السياسي، من هنا حملتهم عليه. هم تارّة يقومون بتقزيمه وتسخيفه، وطورا يعطونه حجماً مبالغاً فيه بهدف تحميله مسؤولية
الانهيار، لكن الأكثر فظاظة هو تخوينه والتشكيك بوطنيته. ادعاءات الحزب باستغلال إسرائيل حركة الاحتجاج الشعبي لمصلحتها، ومقارنة وسائل إعلام الحزب ما يجري اليوم بما جرى خلال السنوات التي سبقت الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، هو جائر ومؤذ وغير صحيح. منذ وقت طويل، تخلى الإسرائيليون عن وهم رسم مستقبل لبنان السياسي، صحيح أنهم يتابعون حركة الاحتجاج في لبنان ويرصدونها ويحاولون معرفة حجم الضرر الذي يمكن أن تتسبب به للحزب، لكن الاهتمام الأساسي لدى أغلبية المعلقين الإسرائيليين هو معرفة احتمالات انهيار الاستقرار السياسي في لبنان، وانعكاسات ذلك على إمكانية اندلاع حربٍ جديدةٍ على الجبهة الشمالية. ثمة إجماع لدى هؤلاء المعلقين بعدم قدرة هذا الحراك على تغيير الوضع السياسي الراهن والتركيبة الطائفية لهذا البلد. نعم إسرائيل ترغب في رؤية حزب الله ضعيفاً، لكن في نظرها الحراك الحالي غير قادر على تحقيق ذلك. وفي الحقيقة، فشل حزب الله في التعاطي مع الحراك واستعدائه والتهويل بالحرب بالفوضى والحرب الأهلية، هو الذي سيؤدي، في النهاية، إلى انهيار الاستقرار السياسي ويضعف الحزب، وتحقيق ما تتمناه إسرائيل.
في الأسبوعين الماضيين، فرض الحراك الشعبي في لبنان نفسه طرفا له أهميته ووزنه في رسم مستقبل لبنان السياسي. وهذا بحد ذاته إنجاز ضخم لحركة احتجاج شبايية وشعبية، لا تعترف بقائد لها أو رئيس يتحدّث بلسانها. اليوم الشابات والشبان الذين أخرجوا آلافا من اللبنانيين من كل الأعمار والطبقات والانتماءات والمناطق للتظاهر، هم أمام اختبار كبير. عليهم ليس فقط أن يثبتوا قدرتهم على مواصلة احتجاجهم الاجتماعي المطلبي والوطني بأشكال أخرى، بل أن يثبتوا قدرتهم على مقارعة الأطراف السياسية التي تتحكّم برقاب الناس، وبالنظام السياسي القائم. فهل سيقدرون على طرح بدائل تبدد الشكوك والمخاوف؟ هل سيثبتون بأنهم عنوان التغيير المطلوب، وأن لا أحد يستطيع أن يختزلهم؟ والأهم هل سينجحون في التصدي للمتضررين على مختلف أنواعهم، ويمنعون إعادتهم إلى نقطة الصفر؟
رندة حيدر
رندة حيدر
رندة حيدر
كاتبة وصحافية لبنانية متخصصة في الشؤون الإسرائيلية
رندة حيدر