عن ثورةٍ في السعودية

عن ثورةٍ في السعودية

28 يناير 2019
+ الخط -
ولم لا؟ ألم يتوقّعها حكّام العربية السعودية، حين أخذت ثورات الربيع العربي تنتقل من قُطرٍ عربيٍّ إلى آخر، سنة 2011، فتصدّوا لها عبر عطاءاتٍ ملكيّةٍ، أطلق عليها بعض المحللين تسمية "رشوات توزَّع على الشعب"، وقمعوا بعض التحرّكات، قطعاً لطريق اندلاعها؟ وهل تغيرت الظروف الاقتصادية والاجتماعية في البلاد منذ ذلك الحين، لكي تنتفي دوافع الثورة؟ على العكس؛ إذ لم يَقلّ عدد الفقراء في المملكة الغنية، وازداد قمع الحريات، فأصبح المنشار فيصلاً بين الحاكم والمحكوم، إن تجرّأ الأخير وفكَّر خارج الصندوق. والثورة الجديدة لا يتوقع اندلاعَها قادة المملكة الحاليون، ولن يفعلوا، كما فعل أسلافُهم في القيادة السابقة، بل حذَّر منها صديقٌ للمملكةٍ في مجلس العموم البريطاني، حريصٌ عليها وعلى العلاقات الطيبة مع ولي عهدها.
لا بد أن وضع حقوق الإنسان، والوضع الاقتصادي في المملكة، قد وصلا إلى حالٍ من التردي والسوء جعلت عضو مجلس العموم البريطاني، كريسبين بلانت، يُحذِّر قادتها من تبعات سياساتهم الداخلية، إن استمروا بالتعاطي مع قضايا المجتمع، كما اعتادوا أن يفعلوا دائماً. وطالب بلانت، مراتٍ عديدةٍ، السلطات السعودية بالسماح لهيئة التحقيق البرلمانية التي شكلها برلمانيون بريطانيون، بزيارة الناشطات المعتقلات في سجونها، للوقوف على ظروف اعتقالهن. ولكونه لم يتلقَّ جواباً، عاد وطالب، قبل أيام، في مؤتمر صحافي، نظمته الهيئة، بالتعاون مع منظمة هيومن رايتس ووتش، بالسماح للهيئة بدخول السجون، للتحقيق في أوضاع اعتقالهن والناشطين الحقوقيين.
ولا يكتفي بلانت بهذه المطالبات المتكرّرة، فقد كتب مقالةً في صحيفة الإندبندنت البريطانية، في 17 يناير/ كانون الثاني الجاري، بعنوان: "السبيل الوحيد لإطلاق سراح الناشطات الحقوقيات السعوديات هو في العمل مع المملكة لا ضدها"، ضمَّنها نصائح وتحذيراتٍ للمملكة. وكتب في مقالته إن على الحكومة السعودية أن تقرَّ بأن مجتمعاً مدنياً "هو جزء ضروري من النظام السياسي الذي من المفترض أن يكون مَلَكيّةً تشاوريةً". ومن وجهة نظر الحريص على المملكة، حذَّر بلانت من أن "البديل عن المَلَكيّة التشاورية مَلَكية مُطلقة، حيث الكارثة في نهاية هذا المسار، ومن ثم تأتي الثورة، في نهاية المطاف". وخروج هذه الكلمات عن رجل طالب بلادَه، في مارس/ آذار الماضي، بأن تمدَّ السجادة الحمراء لاستقبال ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، دليلٌ على أنه غسل يديه من أناسٍ ليس لديهم أي توجّهٍ لإصلاحٍ حقيقيٍّ.
على الرغم من تغيّر طاقم الحكم في المملكة، بعد وفاة الملك، عبد الله بن عبد العزيز، وتنصيب الملك، سلمان بن عبد العزيز خلفاً له، وتكريس سلطة ابنه محمد، إلا أنه لم يمرّ وقتٌ طويلٌ يبرِّرُ للطاقم الجديد نسيان دعوات الغضب التي خرجت سنة 2011، على إثر اندلاع ثورات الربيع العربي في عدد من البلدان العربية، وبالتالي تجاهل حالة الاحتقان الحالية. حيث لم تتغير ظروف البلاد، هذه الأيام، عما كانت عليه، حين أبدى مئاتٌ من المواطنين في المملكة الجرأة على تحدِّي السلطات، والدعوة إلى المظاهرات المطالبة بالتغيير، والتي لم تمنع الحالة الأمنية الاستثنائية التي سادت المملكة يومها خروج عدد منها في أكثر من 13 مدينة في البلاد، منها الرياض وجدة.
مرَّت على تلك الحوادث ثماني سنين، ومنح الملك الراحل، عبد الله، في تلك الفترة، 37 مليار دولار للسعوديين على شكل مساعدات. وأصدر قراراتٍ تتضمن زيادة الحدّ الأدنى للراتب، 
وتوفير عشرات آلاف الوظائف للعاطلين عن العمل، وبناء وحداتٍ سكنية لمحدودي الدخل والطلاب، وغيرها من القرارات. كما قرَّر تشكيل هيئةٍ لمكافحة الفساد، طالما كانت هيئاتٌ على شاكلتها بلا فائدة. لكن الملك لم يلحظ يومها موضوع الحريات في البلاد، وحقيقة أن تلك العطاءات لا تمنع معاناةً مزمنةً، يتوجب إزاحتها تغييراً جذرياً في بنية النظام، وفي نظرته التي تعتبر سكان البلاد رعايا، لا مواطنين يستحقون خطط تنميةٍ شاملةٍ ومستدامةٍ، أو حتى حصولهم على حصَّةٍ، ولو ضئيلةٍ، من ثروة بلادهم.
تبقى هذه الموضوعات ضاغطةً على الجو السياسي والاجتماعي في المملكة، ويبقى التمنُّع عن حلحلتها من سمات هذا الحكم. وربما يعرف أفراد هذا الحكم الحقيقة التي جاء عليها عزمي بشارة في كتابه "في الثورة والقابلية للثورة" (2012)، "إن قضية المعاناة هي في حد ذاتها ليست حالةً موضوعيةً" مكونةً للحالة الثورية، كما كان منظّرو الثورات سابقاً يقولون، فحسب، "بل ترتبط بوعي المعاناة سياسياً أيضاً" (ص 63). لكن أفراد هذا الحكم، على ما يبدو، لم يعرفوا، أو لا يريدون أن يعرفوا، أن أفراد الشعب في السعودية وصلوا إلى هذه المعرفة التي تساهم بتكوين حالةٍ ثوريةٍ. من جهة أخرى، تشير المعطيات الاقتصادية، وتدلُّ المطالبات الحقوقية التي اتسعت بعد جريمة اغتيال الصحافي جمال خاشقجي، بأن وعي حالة القمع ومعرفة الحقوق يزداد، كما أن هنالك ازديادا في الوعي لدى أبناء السعودية بأن معاناتهم ناجمة عن الظلم، وعن الإفقار الذي يكمن أحد أسبابه في استئثار أفراد العائلة الحاكمة بثروة البلاد. وهو وعيٌ يمكن له أن يكون من عوامل الثورة في المملكة، مهما حاول النظام أن ينفخ في ما
يقول إنه تحديثٌ للبلاد.
ومهما فعلت السلطة من محاولاتٍ لإلهاء الرأي العام عن المشكلات الحقيقية التي يعانيها المجتمع، وعن التغييرات السياسية والمجتمعية التي تفرضها، عبر توجيه اهتمامه إلى موضوعاتٍ تافهةٍ، يساهم إعلامها في تضخيمها وإبرازها إلى الأولوية التي تزيح أولوياته الحياتية، وأحياناً كثيرةً، المصيرية، سيبقى واقع الحال ضاغطاً عليه، معيداً إيّاه إلى نقطة الانطلاق الأولى التي قد تكون موجِّهة تحرّكه المطلبي. ذلك الإلهاء الذي نراه الآن من إحداث السلطات تغييراتٍ سطحية، تنفذها "هيئة الترفيه"، مصوِّرةً الشعب وكأنه مجموعة أطفالٍ يُغرقُها كرم أولي الأمر بالألعاب التي تريد هذه السلطات تكريس مزاجٍ عامٍ يقول إنه لا يحتاج إلى سواها، لاغيةً التغييرات الضرورية والملحّة التي يحتاجها المجتمع، لكي يتطور وينهض بأبنائه، متخلّصاً من حال الفقر المعرفي والتعليمي والاقتصادي السائدة.
خلال التحرّكات التي شهدتها المملكة، بداية سنة 2011، صُدِمَ الرأي العام العالمي بحقيقة وجود فقراءٍ في السعودية. حقيقة لم تظهر إلا عندما أغدَقَ الملك عبد الله عطاءاته بعد انطلاق الاحتجاجات. حينذاك خرج إعلاميٌّ أميركيٌّ في برنامجٍ على شاشة إحدى قنوات التلفزة، يتحدث عن مفاجأته بما انكشف، عن أن العربية السعودية التي يقلُّ عدد سكانها عن عدد سكان نيويورك، وتجني ثرواتٍ من عوائد النفط، يوجد فيها فقراء. وتحدّث هذا الإعلامي إن توزيع السلطات 37 مليار دولار لم يكن سوى من أجل منع الشعب من الثورة عليها. ربما كان الأمر يحتاج قتلَ صحافيِّ، وتقطيع جثته، حتى يخرج هذا الاعلامي ويتعجب، مرةً أخرى، من حال الحريات في المملكة. وربما ليقرّ بأن عملية القتل والتقطيع ليست سوى من أجل منع محاولة هذا الشعب القيام بثورةٍ جديدةٍ، تتراكم عوامل اندلاعها.
46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.