اجتياح رفح... الإبادة نصراً إسرائيلياً

اجتياح رفح... الإبادة نصراً إسرائيلياً

10 مارس 2024
+ الخط -

منذ اليوم الذي أعلن فيه رئيس مجلس الحرب الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أنه أعطى الأوامر للجيش بالتحضير لهجوم وشيك على مدينة رفح، لم يتوقف لحظة عن التأكيد على إصراره على شنّ العملية، على الرغم من التحذيرات من أن الوضع سيكون كارثياً بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ الحروب الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني، أو حتى الحروب الحديثة، وقد يؤدّي إلى تغيير في الموقف الغربي المؤيد لدولة الكيان. وبينما كان الجميع يتحدّث عن اتفاق لتبادل الأسرى أو هدنة مع حركة حماس، كان الرجل يقول إن ذلك لن يؤدّي إلى إيقاف العملية بل إلى تأجيلها فحسب. وإذ يقرن نتنياهو بين تحقيق "نصر كامل"، حسب تعبيره، واجتياح رفح، فإنه بذلك يمضي بالإبادة الجماعية علناً، وكأنه مدرك أن التحذيرات الخجولة التي تلقاّها، والتمنيات بضرورة تجنيب المدنيين تبعات الاجتياح، ليست سوى ضوء أخضر غربي للشروع بالعملية.

وعلى الرغم من القضية المرفوعة ضد دولة الاحتلال أمام محكمة العدل الدولية باقتراف جريمة إبادة جماعية بحق أهالي غزّة، وما يمكن أن يشكله إجبار السكان على النزوح وإخلاء مساكنهم وممتلكاتهم وتدميرها من جريمة تطهير عرقي وجريمة حرب، إلا أن ذلك كله لم يمنع نتنياهو من الإعلان، في الـ7 من الشهر الماضي (فبراير/ شباط)، أنه أمر الجيش بالتحضير لهجوم وشيك على رفح. وتوقع أن "الانتصار" على "حماس" ليس سوى مسألة أشهر، رابطاً بين الهجوم على رفح وتحقيق ذلك الانتصار وتحرير الأسرى الإسرائيليين في القطاع. وأضاف نتنياهو أنه أمر الجيش بالتحضير لعملية في رفح، وفي مخيمين للنازحين، مصنّفاً هذه المواقع أنها آخر المعاقل المتبقية لحركة حماس.

يساعد إسرائيل في المضي بهذه الإبادة موضوع نكران الغرب الإبادة الجماعية بحقّ الفلسطينيين

وتعدّ مدينة رفح، جنوبي قطاع غزّة على الحدود مع مصر، الملاذ الآمن الأخير لثلثي سكان القطاع المدنيين الذين نزحوا، مرّات كثيرة، من أماكنهم إلى أماكن أخرى، حتى وصلوا إليها من كل أنحاء القطاع هرباً من المجازر الإسرائيلية وتدمير المنازل وتجريف الشوارع والأراضي وحتى المقابر، خلال الحرب التي شنّها الجيش على القطاع بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. وقد تضاعف بذلك عدد قاطني المحافظة حتى وصل إلى أكثر من مليون و400 ألف نسمة، ويُقدِّر بعضهم أنهم يتعدون هذا العدد، بعد أن كان حوالي 260 ألف نسمة قبل الحرب الجارية. وبسبب هذه الكثافة، وعدم وجود ملاذ آخر أبعد من رفح، حذَّرت الأمم المتحدة من مصير كارثي يتهدّد رفح إذا نفّذ نتنياهو تهديده باجتياحها عسكرياً، وهي التي لا تستطيع المنظمات الإغاثية مساعدة النازحين فيها، ويعاني القطاع الصحّي فيها من مشكلاتٍ تشغيلية بسبب قلة عدد المشافي ونقص الإمدادات الطبية ومصادر الطاقة وقلة عدد أفراد الفريق الطبي مقارنة بالعدد الكبير للقاطنين. وهنا، يمكن تخيُّل كيف سيكون الأمر عليه من مجازر غير مسبوقة بحقّ نازحين ينامون في العراء ويعانون الجوع واليأس والأمراض، في حال تعرضوا لهجومٍ مشابه للهجمات التي تعرّضت لها باقي مدن القطاع وقراه، إذ سيكون مصيرهم القتل الجماعي المخطّط له على أرضهم، أو النزوح الدائم، والمخطّط له أيضاً، إلى خارجها في سيناء.

ومن خلال نيته مواصلة الحرب، يواصل نتنياهو النهج الإبادي الذي تبنّاه من اللحظات الأولى للحرب على غزّة، والتي تبين أنها كانت حرباً معدّة سلفاً، وكانت جميع الخطط اللازمة لها موضوعة سابقاً، كون نتنياهو وجميع قادة الكيان وجزء كبير من الإسرائيليين لا يرون حلاً للقضية الفلسطينية سوى بتدمير الأراضي الفلسطينية وإبادة الشعب الفلسطيني برمته. ومن الاستمرار في حربه عبر اجتياح رفح، لا يهدف نتنياهو إلى استكمال الإبادة الجماعية، ولا إلى القضاء على المقاومة بشكلها العسكري المتمثل بحركتي حماس والجهاد الإسلامي وبقية الفصائل فحسب، بل يهدف أيضاً إلى القضاء على ما تبقى من إرادة المقاومة لدى الشعب الفلسطيني، وإجباره على التنازل عن حقوقه، ومنها حق تقرير مصيره. تلك الإرادة وهذا الحقّ الذي يعدّهما الإسرائيليون التهديد الأهم، الأخطر والأخير، لمشروع إقامة دولتهم الكاملة. وفي إطار ما يعدّونه تهديداً لكيانهم، لم يخجل الإسرائيليون من تكرار توجيه رسائل واضحة ومبطنة تقول إن كل من يهدّد كيانهم، مهما كان شكل التهديد وحجمه، سيكون مصيره المصير الذي طاول غزة وأهلها. واللافت أنهم لم يستثنوا في رسائلهم تلك حتى المطبّعين معهم، القدماء منهم والجدد.

سيكون اجتياح رفح تطوّراً غير مسبوق في سجل الانتهاكات ضد الإنسانية التي ربما تنعكس سلباً على قادة دولة الاحتلال وعلى داعميهم في الغرب

لم تواجه دولة الاحتلال ما يمكن أن يُعدّ معارضةً جدّية لمشروع الإبادة القائم، لا من المحيط العربي، ولا من قادة الغرب وإعلامه الذين يبرّرون كل ما تقترفه القوات الإسرائيلية من جرائم بوصفه حقاً بالدفاع عن النفس. ويساعد إسرائيل في المضي بهذه الإبادة موضوع نكران الغرب الإبادة الجماعية بحقّ الفلسطينيين. ولم يكن لهذا النكران أن يصبح بهذه القوة سوى بسبب تجريد الإسرائيليين ومؤيديهم في الغرب الفلسطينيين من إنسانيتهم، من أجل استسهال استهدافهم بلا أي اهتمام بعواقب الأمر. لذلك من المتوقّع أن يستمر التواطؤ الغربي والدعم، وربما المشاركة، في الجريمة المحتملة في رفح والتغطية عليها، بسبب ما لمسه هؤلاء جميعاً من نزعة تحريرية خطيرة في عملية طوفان الأٌقصى.

إذا كان نتنياهو وفريقه الحربي، ومن معهم من السياسيين وبقية الإسرائيليين، يروْن في اجتياح رفح اختتاماً لحربهم وشروعاً في تحقيق أهدافها، فإنها، في الواقع، ستكون تتويجاً لجرائمهم وتعزيزاً لروح القتل التي تُوجِّه سياساتهم. ولكن، من ناحية أخرى، سيكون الاجتياح تطوّراً غير مسبوق في سجل الانتهاكات ضد الإنسانية التي ربما تنعكس سلباً على قادة دولة الاحتلال وعلى داعميهم في الغرب. وإذ يتضح أن دوائر صناعة القرار في الغرب رصدت النظرة المستجدّة لدى شعوب المنطقة، التي رأت أن الغرب عاد ولبس رداء الاستعمار القديم عندما دعم حرب إسرائيل على الشعب الفلسطيني، إلا أن تلك الدوائر لم تقرأ أن هذه النظرة يمكن لها أن تنعكس نزعةً جديدة لدى هذه الشعوب، نزعة كان "طوفان الأقصى" قد أثبت أنها تغيب لكنها لا تخمد.

46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.