اتحاد "الكسكسي" المغاربي

اتحاد "الكسكسي" المغاربي

21 يناير 2019

وجبة كسكسي لـ22 ألف شخص في الجزائر (3/6/2004/فرانس برس)

+ الخط -
من المضحكات المبكيات في دنيا السياسة المغاربية، ولا تقل حمقا عن نظيرتها في المشرق العربي، أن تظل دعوة العاهل المغربي، محمد السادس، والتي أطلقها في السادس من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، من أجل تجاوز الخلافات الثنائية مع الجارة الجزائر، وفتح صفحة جديدة بين البلدين، عالقةً في سماء المناكفات الثنائية، قبل أن تسقط أخيرا بطريقةٍ كاريكاتوريةٍ في طبق من كسكسي، بعد أن اندلع أخيرا نزاعٌ عجيبٌ غريب، بين الجزائر والمغرب، حول أحقية كل منهما في ملكية طبق الكسكسي، الأكلة الشعبية الأكثر انتشارا في المنطقة، ومن له الحق في تقديم ملفه لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (يونيسكو) بغرض تسجيل هذا النوع من الطبيخ تراثا عالميا.
الحكاية أو الفزورة هذه، وللغرابة، غطت بالكامل على أجواء التفاؤل الحذر التي كانت قد صنعتها دعوة العاهل المغربي إلى الصلح مع الجزائر وتجاوز الخلافات القائمة، بل استدعى أمر طبق الكسكسي، لأهميته، على ما يبدو، سجالا مفتوحا بين أعلى الهيئات في الدولتين، حيث اتهم الوزير الأول الجزائري، أحمد أويحيى، في إحدى إطلالاته الميدانية، الجانب المغربي، بمحاولة احتكار طبق الكسكسي بالادّعاء أنه مغربي، الأمر الذي استوجب معه، برأي المغاربة، ردا سريعا جاء على لسان الناطق الرسمي باسم الحكومة، مصطفى الخلفي، ليجدد التأكيد على أن طبق الكسكسي مغربي، وهذا لا يحتاج أي نقاش.
والمثير أنه مباشرة بعد حادثة الكسكسي العجيبة هذه، ارتفعت حدّة الخطاب المغربي تجاه الجزائر بعد فترة هدنةٍ مصاحبةٍ لدعوة الصلح الملكية، حيث اعتبر الإعلام المغربي 
تصويت البرلمان الأوروبي على الاتفاق بين الاتحاد الأوروبي والمغرب أخيرا، المتضمن المنتجات القادمة من الصحراء الغربية "انتصارا على الخصوم"، قبل أن يتهم رئيس الحكومة المغربي، سعد الدين العثماني، في اجتماع لمجلس الحكومة في الرباط، الجزائر، من دون ذكر اسمها، بالمناورة وحياكة مؤامراتٍ ضد بلاده. ولم تتوان الخارجية المغربية في اتهام الجزائر بالاسم، رفقة جبهة بوليساريو، بحياكة المناورات والهجمات، بهدف تقويض الشراكة الأوروبية المغربية.
ولا يبدو أن ما يمكن تسميتها "لعنة طبق الكسكسي" كانت وحدها، إلى جانب الاتفاق الفلاحي بين الاتحاد الأوروبي والمغرب، سببا في سقوط دعوة الملك محمد السادس إلى وضع حد للتفرقة والشقاق بين الجزائر والمغرب، في ماء المرق، فالأمر كان ولا يزال أعقد من ذلك بكثير، فالجزائريون الذين يستعدّون لتقديم ملف الكسكسي إلى "يونيسكو"، في شهر مارس/ آذار المقبل، كانوا أكثر واقعيةً في التعامل مع تلك الدعوة العاطفية إلى الصلح، عندما رفضوا الرد عليها بدايةً، وهم يقرأون أخبار صفقة الأسلحة الضخمة، شراء المغرب 162 دبابة أميركية من نوع أبرامز، أو عندما اعتبروها في حينها أنها "لا حدث"، ليس لأن الدعوة الكريمة جاءت بالتزامن مع صفقات للتسلح كهذه، و"استعدادا للحرب ضد من"، ولا لأنها تزامنت مع ذكرى المسيرة الخضراء، والتي هي سبب كل المشكلات والخلافات بين البلدين، وإنما لأن التجارب السابقة لرأب الصدع بين البلدين ما تزال ماثلة للعيان. ولذلك، يمكن قراءة الهدوء الجزائري في عدم الرد على هذا التصعيد المغربي، واعتباره، كعادة الجزائريين في اعتبار ضجيجٍ كهذا، أنه لا حدث وأمرٌ لا يستحق الرد، على أنه إدراكٌ واستشرافٌ مسبق لهذا المآل السيئ، الذي لم يُنه فقط تلك الرومانسية السياسية المؤقتة التي استمرت أكثر من شهرين بعد دعوة الصلح الملكية، وإنما قد يطيح حتى المبادرة الجزائرية التي جاءت عقب دعوة الملك محمد السادس إلى عقد اجتماعٍ لوزراء خارجية اتحاد المغرب العربي، من أجل بحث إعادة إحياء هذا الاتحاد، على الرغم من أن جميع الأطراف كانت قد قبلت الدعوة في حينه.
ولا يمكن هنا اعتبار طرح موضوع الخلاف الجزائري المغربي بشأن طبق الكسكسي، من جانب الترفيه السياسي عن النفس، في وسطٍ يعج بالمنغصات والمشكلات، بقدر ما يشكل ذلك صورةً مصغرةً، عن فداحة الوضع العربي المزري عموما، والجزائري المغربي خصوصا، بالنظر إلى عمق الخلافات السياسية بين النظم القائمة، بعيدا عن تطلعات الشعوب. ولذلك كانت قضية الكسكسي، على الرغم من الكم الهائل من السخرية الذي تحمله، مناسبةً أخرى لفضح عمق التناقضات بين الطرفين، منذ حرب الرمال بين البلدين في عام 1963، مباشرة بعد استقلال الجزائر، ووصولا إلى قضية الصحراء الغربية التي ما زالت أكبر عائق أمام بناء المغرب العربي الكبير، نظرا إلى البون الشاسع في فهم الطرفين هذه القضية، من أنها قضية استرجاع للسيادة الوطنية، والوحدة الترابية بالنسبة للمغرب، إلى أنها قضية تصفية استعمار، وحق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره بالنسبة للجزائر.
بين كل هذه المعوقات، تقف قضايا أخرى لا تقل أهميةً، مثل الإرهاب وتهريب المخدرات من المغرب إلى الداخل الجزائري، وكذا اختلاف منظومتي الحكم الملكي والجمهوري في البلدين، وطبيعة التسليح الأميركي للمغرب والروسي للجزائر، وبطبيعة الحال، استمرار قضية غلق الحدود بين البلدين وغيرها، وهي مشكلاتٌ سرعان ما تنفجر كلها، ودفعة واحدة، إذا ما 
اعترضتها اشكالاتٌ قد تبدو سخيفةً في ظاهرها، كقضية الكسكسي، لكنها مع ذلك تنجح في أن تكون عائقا فعليا في استكمال شروط المصالحة، وتلطيف الأجواء بشكل حقيقي ودائم. وقد رأينا أمثلة كثيرة على ذلك، حين اعترض المغرب بقوة على نية الجزائر في عام 2016 ضم طابع أغنية الراي في قائمة التراث العالمي غير المادي، وفعلت الجزائر الشيء نفسه حين اعترضت سبيل المغرب في سعيه إلى إدراج طابع "القناوة" الغنائي على القائمة العالمية.
إنه باختصار عناد أحمق طويل ومُتعب، منذ نحو ربع قرن على غلق الحدود، وأكثر من 55 سنة على الترصّد العدائي المجاني. ومهما كان الطرف الذي يركب رأسه أكثر من الآخر، فإن اللعبة صارت أكثر من ممجوجة، فطبق الكسكسي الذي هو تراثٌ مغاربيٌّ بامتياز، ولا يكاد جزائري أو مغربي أو تونسي، منذ قرون طويلة، يخلو من رائحته العبقة، كان من المفروض أن يكون عنوانا بارزا للوحدة، إذا حدث وفرّقت السياسة أو حتى الكرة بين الإخوة. جمعتهم هذه النعمة على موائد المحبة، كما فعل أجدادهم من الموحّدين والمرابطين، لكن حتى وحدة التراث والتاريخ أصبحت اليوم محل شك وتجاذب وصراع، ولن يتغيّر هذا الواقع المرير، طالما أن في الجانبين، من ساسةٍ وأصحاب مصالح وإعلاميين وصنّاع رأي، من يسوّق فكرة أن الآخر الذي من خلف الحدود هو العدو. الآخر العربي المسلم هو العدو، بينما يتم التسويق، وعلى نطاق واسع في مستحكمات صفقة القرن وما شابهها، في مشرقنا العربي المنكوب، أن الآخر الصهيوني، المغتصب للأرض والعرض، بات صديقا وحليفا.
هل سقطت دعوة الملك محمد السادس في بركةٍ من مرق الكسكسي إذن؟ على الأرجح لن يكون هنالك أمل في إصلاح المطبخ المغاربي، إلا بإدراك كبار الطبّاخين أنهم فقدوا كل التوابل الضرورية لإنجاز وليمةٍ تضمن للجميع البقاء على قيد الحياة.. وإلا لا لوم على من يدسّ السم في كل الأكل.
133E9202-5916-4876-BAE6-293DD70280C0
حسان زهار

كاتب وإعلامي جزائري، تولى رئاسة تحرير صحف جزائرية يومية وأسبوعية