ما بعد نقطة اللاعودة بين الجزائر والمغرب

ما بعد نقطة اللاعودة بين الجزائر والمغرب

18 سبتمبر 2023
+ الخط -

رغم أن العلاقات المتوترة للغاية، بين الجزائر والمغرب، كانت قد وصلت، لأسباب تاريخية وجيوسياسية معقدة، قبل زلزال الحوز المدمر، إلى مرحلة خطيرة جداً، عبّر عنها الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون بـ "نقطة اللاعودة"، إلا أنّ رفض الخارجية المغربية الرسمي عرض المساعدات الإنسانية التي قدّمتها الجزائر لضحايا الزلزال في المغرب، بعد أن كانت الجزائر قد جهّزت طائراتها وكل ما يلزم من فرق الإنقاذ المتخصّصة لإرسالها للمساهمة في مساعدة المنكوبين، يوصلنا، للأسف الشديد اليوم حتمياً، إلى ما يمكن تسميتها مرحلة "ما بعد نقطة اللاعودة"، بكل ما تحمله هذه العبارة المستحدثة من آثار جسيمة على مستقبل العلاقات بين البلدين، بحيث قد تشكّل زلزالاً سياسياً موازياً في المنطقة المغاربية أكثر فداحةً من الزلزال الطبيعي في حدّ ذاته، على اعتبار أن نقطة اللاعودة كانت ربما تقتصر على علاقات النظامين السياسيين في الجزائر والرباط، في حين من المرجّح أن تمتدّ، للأسف الشديد، آثار مرحلة ما بعد نقطة اللاعودة هذه إلى طبيعة علاقات الشعبين الشقيقين ذاتها، بعد أن عطّل هذا "الرفض المغربي" غير المفهوم للتعاون في مواجهة هذه المأساة الإنسانية آخر جسور التلاحم الشعبي الذي كان يمكن البناء عليه، لتجاوز هذا الانحدار الجنوني في علاقات البلدين.
قد تكون هذه النظرة تشاؤمية، أكثر من اللازم، لكن العارفين بخفايا العلاقات الجزائرية المغربية وخباياها الخاصة والملتبسة، يفهمون بالتأكيد معنى أن يأتي قرار سياسي من هذا النوع ليجهض ما يمكن أن تكون فرصة أخيرة منحتها الطبيعة، أو أرادتها العناية الإلهية، لتجاوز هذه السيرورة الدراماتيكية نحو منطق الحرب بين البلدين، والتي ازدادت بسرعة رهيبة في السنتين الماضيتين، وتحديداً منذ التطبيع المغربي الإسرائيلي، وقرار الجزائر بعدها بقطع العلاقات الدبلوماسية وغلق المجال الجوي، والدخول في المنطقة الحمراء من سباق التسلّح بين البلدين، وانخراط الإعلام الرسمي والموازي لدى الطرفين في تأجيج الأزمة واستعمال كل دولة مصطلح "العدوّ" ضد الدولة الأخرى.

الرفض المغربي للمساعدات الجزائرية لضحايا الزلزال لا يمكن وضعه بالطبع في سياقات (ودلالات) رفض المساعدات الفرنسية أو الألمانية أو باقي الدول الأخرى

ولعل مصدر الخطورة في قراءة ما آلت إليه العلاقات بين الجزائر والمغرب أنّ هذا الرفض المغربي للمساعدات الجزائرية لضحايا الزلزال لا يمكن وضعه بالطبع في سياقات (ودلالات) رفض المساعدات الفرنسية أو الألمانية أو باقي الدول الأخرى التي عرضت مساعدتها، نظراً إلى حساسية تلك العلاقة المعقّدة التي تربط أكبر بلدين مغاربيين منذ سنوات الاستقلال الأولى في ستينيات القرن الماضي، ولانعدام أي فرصة للتواصل بين البلدين في السنتين الماضيتين، بعد قطع كل أشكال العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والتجارية بينهما، ولأن بروز "فرصة الزلزال"، إن صحّ التعبير، كان بمثابة بارقة أمل حقيقية ظهرت من قلب المأساة، لإنعاش "دبلوماسية الكوارث"، بعد أن فشلت جميع أنواع الدبلوماسية في الماضي، بما في ذلك الوساطات، الأمر الذي يجعل من الرفض المغربي المساعدات الجزائرية، تحديداً، "رفضاً سياسياً"، وليس تقنياً أو إجرائياً، لأنه أهدر، مع سبق الإصرار والترصد، فرصة ذهبية لاحت بين ثنايا المأساة، لتجاوز ارتدادات مشكلات ضخمة سابقة كقضية الصحراء الغربية، والحدود، والتطبيع، وجميع أشكال المؤامرات المعروفة من هنا وهناك.
سياسياً، سيكون من الصعب الحديث بمصداقية عن سياسية "اليد الممدودة" التي لطالما روّجتها الرباط، خصوصاً في خطابات الملك محمد السادس في مختلف المناسبات اتجاه الجزائر، ومنها تحديداً في 30 يوليو/ تموز الماضي، لمّا أعرب عن أمله في عودة العلاقات إلى طبيعتها، وأنّ بلاده تُولي أهمية بالغة "لروابط المحبّة والصداقة والتبادل والتواصل بين الشعبين المغربي والجزائري"، ذلك أنّ الفكرة المرفقة لتلك السياسة التي تنحو باتجاه تحميل الجزائر المسؤولية المطلقة في رفض المصالحة مع المغرب وردّ اليد الممدودة المغربية، وأنها هي من ترفض إعادة العلاقات الدبلوماسية، وترفض أي شكل من الوساطات والتقارب، تكون الآن قد سقطت في الماء بشكل صارخ، لأنّه في الوقت الذي انتظر فيه العالم أن تقتنص الرباط هذه الفرصة الإنسانية للتلاحم العربي، خصوصاً مع الجارة الشرقية، التي أقامت، إنسانياً على الأقل، الحجّة على المغرب، من الوهلة الأولى لوقوع الزلزال المدمّر، بتقديم التعازي للشعب المغربي، وقرار فتح المجال الجوي لنقل المساعدات الإنسانية، ثم التعبير عن الاستعداد لتقديم كل أشكال الدعم والمساعدة للمنكوبين، ثم بتقديم "خطّة طوارئ" متكاملة مع قائمة المساعدات والفرق المختصّة في الإنقاذ، وصولاً إلى وضع تلك الفرق المتخصّصة على أهبة الاستعداد وإرسالها إلى المطار، في ذلك الوقت الحساس تحديداً، سحبت الرباط يدها الممدودة تلك، وقالت بصريح العبارة "إنها ليست بحاجة إلى المساعدات الإنسانية المقترحة من الجزائر".

المساعدات الجزائرية التي كانت مقرّرة للمغرب لم تكن من الدولة الجزائرية وحدها، بقدر ما ساهم فيها جزء واسع من الشعب الجزائري

شعبياً، المصاب جلل، فقد كان فتح المجال للمساعدات الإنسانية الجزائرية فرصة لا تعوّض لخفض الاحتقان الشعبي المشترك، الذي ساهمت فيه للأسف منصّات مختصّة في الدعاية وزرع الكراهية بين الشعوب العربية، ليست بالضرورة مغربية وجزائرية فقط، بل ولها رائحة صهيونية واضحة، استثمرت كثيراً في زرع الأحقاد بين أكثر الشعوب العربية والمغاربية تجانساً في المشتركات من دين ولغة وثقافة وتاريخ وجغرافيا وعادات وحتى عقلية متشابهة. وما يثير الشجن هنا، حقيقة، أن المساعدات الجزائرية التي كانت مقرّرة للمغرب لم تكن من الدولة الجزائرية وحدها، بقدر ما ساهم فيها جزء واسع من الشعب الجزائري الذي قام بحملات كبيرة لجمع التبرّعات لنجدة إخوانه المغاربة، وكان يُفترض أن تهدم تلك الهبّة الجزائرية الصادقة ناحية إخوانهم في المغرب كل ما خطط له أعداء الأمة لضرب وحدتها، عبر رؤية فرق الإنقاذ الجزائرية المدرّبة، وذات الصيت العالمي في عمليات الإنقاذ، بعد وقفتهم الرائعة في إنقاذ منكوبي الزلزال في تركيا وسورية، وهي تساهم في إنقاذ أرواح إخوانهم المغاربة.
كان ذلك في حال حصوله مدعاة لكسر كل الحواجز، وجبر جميع الخواطر، وفرصة تاريخية لإثبات حقيقة أن الجزائريين والمغاربة إخوة وليسوا أبداً أعداء كما يُراد لهم أن يكونوا، خدمة لمشاريع التقسيم وإشعال الحروب بين الدول العربية، التي ترعاها القوى الصهيونية وأدواتها داخل بعض الأنظمة، وإهدار مثل هذه الفرص النادرة، التي تسوقها الأقدار، ولا يظهر فيها أي طرفٍ بأنه تنازل للطرف الآخر، ويفترض ألا تخضع لحسابات الربح والخسارة، ولا للاعتبارات السياسوية لأنها مرتبطة بعمل إنساني بحت لإنقاذ الأرواح ومساعدة المحتاجين، هو مؤسفٌ للغاية، وعلامة مزعجة عن حجم اليأس من المستقبل.
وقد شاهدنا ولمسنا على أرض الواقع كيف ارتفعت الآمال عالياً جداً، نهار 12 سبتمبر/ أيلول الحالي بعد تصريحات وزير العدل المغربي، عبد اللطيف وهبي، لقناة العربية، عن ترحيب الحكومة المغربية بالمساعدات الجزائرية، وكيف اعتقد حينها مراقبون كثيرون في الجزائر والعالم العربي أن ثقباً ما سيكون في جدار الجليد السميك، حتى إن الأوامر أعطيت في الجزائر لطائرات الشحن العسكرية بالاستعداد للانطلاق من مطار بوفاريك، وأمضت طواقم الإنقاذ ليلتها هناك في انتظار الضوء الأخضر من الخارجية المغربية، لكن وقع الرد المغربي الرافض، في ساعة متأخرة من ليل ذلك اليوم الطويل، كان ثقيلاً جداً، إلى درجة استشعر معه الشعب الجزائري هذه المرّة مقولة الرئيس تبّون بتفاصيلها، عن نقطة اللاعودة في علاقات بلادهم مع المملكة المغربية، وأن هذا القرار المغربي الصادم قد تجاوز الأطر السياسية إلى المساس بما هو إنساني ووجداني بين الشعبين الشقيقين، الأمر الذي يهدّد ببداية التأريخ لمرحلة ما بعد نقطة اللاعودة، بحيث تنسلخ حالة القطيعة من النمط البسيط بين النظم السياسية، إلى الدائرة المركّبة التي تصل فيها إلى الشعوب نفسها حين يغمرها اليأس من عملية إصلاح ذات البين.

اصطدمنا جميعنا بالنتيجة النهائية المؤلمة لهذه القطيعة الجزائرية المغربية متعدّدة الأبعاد، والتي بات فيها العربي يرى فيها أخاه العربي تحت الردم

وإذا كانت مآخذ المغرب ضد الجزائر تتركز أساساً على موقفها الداعم البوليساريو واستقلال الصحراء، على الرغم من تأكيدات الجزائر أن القضية مسجّلة في الأمم المتحدة قضية تصفية استعمار، فإن مسبّبات نقطة اللاعودة التي وصلت إليها علاقات الجزائر بالمغرب قبل هذا الزلزال، وكشف عنها الرئيس تبّون في أحد حواراته لقناة الجزيرة في 22 مارس/ آذار الماضي، المعروفة عند الجزائريين منذ قرار قطع العلاقات الدبلوماسية في 24 أغسطس/ آب 2021، والتي تتعلّق، في المجمل، بالتآمر على أمن الجزائر واستقرارها، والتطبيع الساخن للمغرب الذي وصل إلى درجة التحالف العسكري والأمني والاستخباراتي مع الصهاينة، وتحويل المغرب إلى منصّة يطلق منها المسؤولون الإسرائيليون تهديداتهم لها، ودعم انفصال منطقة القبائل، والنظرة التوسّعية التي ما فتئ يطالب الحكم في الرباط بما تسمى الصحراء الشرقية، وهي أراضٍ جزائرية حررتها الثورة الجزائرية من فرنسا بدماء الشهداء، قد تعزّزت اليوم بعد هذا الزلزال بشكل كبير، بسبب إضافي شكّل بحق جداراً فاصلاً آخر، ينضاف إلى الجدران والخنادق الطويلة التي تفصل الحدود المغلقة بين البلدين منذ 1994، غير أن طبيعة هذا الجدار الجديد أخطر بكثير من كل ما سبقه، لأنه يجسّد المخطط الصهيوني الذي ترعاه الاتفاقيات الإبراهيمية للسلام، والذي يركّز أساساً على ضرب أواصر الأخوّة والتعاون بين الشعوب العربية في الظروف الصعبة، وفي مقدمتهم الشعبان الجزائري والمغربي، بحيث يصبحان شعبين منفصلين نفسياً، حتى على المستوى الإنساني في زمن النكبات والكوارث.
وسيكون على الأمين العام للجامعة العربية، أحمد أبو الغيط، الذي يعدّ آخر مفردات الحلم العربي القديم في الوحدة، بهذه الحالة العربية الموغلة في القطيعة واللاعودة، أن لا يبادر، في خضم انبعاث بارقة الأمل التي أحدثها ما سماه "الموقف العروبي الأصيل للجزائر" بعد الزلزال، إلى رفع سقف التمنيات والأحلام الوردية عالياً ضمن هذا الواقع العربي البائس، أو الحديث مجدّداً عن الروح التضامنية العربية، وإمكانية البناء على الموقف الجزائري الأصيل من زلزال المغرب، بعد أن اصطدمنا جميعنا بالنتيجة النهائية المؤلمة لهذه القطيعة الجزائرية المغربية متعدّدة الأبعاد، والتي بات فيها العربي يرى فيها أخاه العربي تحت الردم، ولا يستطيع أن يقدّم له يد العون، لأن مقتضيات السياسة وحساباتها ببساطة أرادت ذلك.

133E9202-5916-4876-BAE6-293DD70280C0
حسان زهار

كاتب وإعلامي جزائري، تولى رئاسة تحرير صحف جزائرية يومية وأسبوعية