"النهضة" وبيانها السوري الصادم

"النهضة" وبيانها السوري الصادم

12 يناير 2019
+ الخط -
في تحوّل كلي لموقفها من المأزق السوري، فاجأت حركة النهضة الرأي العام داخل تونس وخارجها بإصدار بيان نقض المعالم والأدبيات والملفوظات التي كانت قد تعاطت بها مع المسألة السورية، عنونته "بالدعوة لمصالحة شاملة يستعيد بها الشعب السوري حقه في أرضه وفي حياة ديمقراطية وتضع حداً للتقاتل وما أنجر من مآسٍ إنسانية". وذكرت أن "هذه المصالحة هي الكفيلة بأن تعيد لسورية مكانتها الطبيعية في المنظمات الدولية والعربية". وأرجعت الحركة الإسلامية منطلقات بيانها الصادم والمتقلب، والذي وصفه ملاحظون (مراقبون) للشأن السياسي بأنه "نفعي" و"براغماتيكي"، إلى ما سمته الانسجام والتفاعل مع "التطورات الإقليمية".
لم يمر هذا البيان الذي فاجأت به حركة النهضة الفضاء التونسي العام مرور الكرام، ولم يعتبر حجراً رمى به رامٍ في مياه راكدة، بل تلقته ردود فعل عديدة مفتوحة على إمكانات "تبدّل" و"تغير" مواقف حزب ما من تحولات إقليمية أو دولية، وصولاً إلى الحفر في "عمق المسألة الأخلاقية والإيتيقية التي وجب أن تحكم الفعل والسلوك السياسي". ومن ذلك أن المحلل السياسي التونسي لطفي النجار عقّب على ما يمكن اعتباره مأزقاً أخلاقياً وضعت "النهضة" حزبها فيه، بالإشارة إلى "مفسدة للسياسة، وتعدّ ساخر على أبسط قواعدها وقيمها الأخلاقية في درجاتها الدنيا..".
وفي قراءة لسانيةٍ ملفوظيةٍ، يمكن الوقوف، صدوراً عن مرجعياتٍ في علم الاجتماع السياسي، 
عند التحول المعجمي لأدبيات حركة النهضة، قبل البيان وخلاله، من ذلك أن "الثورة السورية المباركة" التي صدح بها أغلب القادة النهضويين، سنواتٍ، أصبحت في البيان "اقتتالاً داخلياً انجر عنه مآس إنسانية ..". كما امّحت صفات "الدكتاتور" و"السفاح" و"النظام النصيري العلوي"، ووجوب "الجهاد ضده نصرة للدين"، و"نصرة لإخواننا السنة المسلمين"، لتحل محلها مصطلحات "التطورات الإقليمية" و"المصالحة السورية".
وذكّر البيان التونسيين بفيديو أحد قادة حركة النهضة "الصقور"، الحبيب اللوز، يحثّ فيه الشباب التونسي على الالتحاق بسورية، وقال إن "شيخوخته هي التي منعته من محاربة نظام بشار". كما أعاد البيان إلى المخيال الجمعي التونسي وقائع، صاحبت حكم "الترويكا" (2012-2014)، وأشهرها استقبال تونس مؤتمر أصدقاء سورية الذي سبقه طرد السفير السوري من تونس، وفتح أبواب البلاد لدعاة "الجهاد" وذلك "لنصرة الثورة السورية"، وما تبعها من موجات تسفير الشباب إلى الشام عبر "جهاز سري"، وهذه شبهةٌ لم يُفصل فيها قضائياً بعد.
وفي تفسيرهم بيان "النهضة"، لم يستغرب قادة حزبيون انقلاب الحركة عن مواقفها وتحولاتها عن بياناتها السابقة إزاء الوضع السوري، معتبرين ذلك أمراً عادياً يتصل بطبيعة الأحزاب الراديكالية وثقافتها، وخصوصاً "النهضة" التي يرمي بعضهم سياساتها ومواقفها بـ"الانتهازية السياسية". فيما يرى آخرون أن راهن سياسات الحركة الإسلامية ومواقفها تحكمه أجندات محلية وإقليمية ودولية، في مقدمتها مزيد من التموقع في المشهد السياسي المحلي، أخذاً بالاعتبار الاستحقاقات الانتخابية في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، وما يحتّم ذلك من سيناريوهات إعادة نسج منظومة التوافق مع رئيس الجمهورية، الباجي قائد السبسي، الذي 
صدرت عنه مؤشرات إلى انفتاح دبلوماسي من جانبه على دمشق. وحتمت إرادة التموقع هذه على "النهضة" انسجاماً كاملاً مع مقومات الديبلوماسية التقليدية التونسية التي أسسها الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، ويواصل السير على منوالها تلميذُه الروحي الرئيس الحالي، وهي دبلوماسيةٌ تنأى بتونس عن المحورية والتدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الشقيقة والصديقة، خصوصاً وأن تونس تتهيّأ لرئاسة القمة العربية واحتضانها (31 مارس/ آذار 2019)، وتعمل جاهدةً على إنجاحها، لما يجعلها محطة تاريخية في رتق ما تصدّع من العلاقات العربية، إذ لا يستبعد، حسب تسريباتٍ شبه مؤكدة، أن تشهد قمة تونس بحث ملف عودة ممكنة لسورية إلى مؤسسة القمة وجهازها التنفيذي، الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، "إذا بادرت دمشق باتخاذ إجراءات قرار مجلس الأمن 2254 لتأهيل العودة للجامعة العربية"، وخصوصاً "إعلان موقف صريح وجدي من التغلغل الإيراني على أراضيها".
وكانت تونس قد قطعت علاقاتها مع دمشق في عام 2012 في أثناء رئاسة حليف حركة النهضة في حينه، المنصف المرزوقي، وكان وزير الخارجية هو رفيق عبد السلام، صهر رئيس حركة النهضة، راشد الغنوشي. وقد أعادت تونس في عام 2015 فتح مكتب قنصلي للتعاون الأمني، ولتسيير الإجراءات الإدارية مع أفراد الجالية التونسية في سورية (مقدرة بستة آلاف تونسي)، ثم بدأت وفود برلمانية وسياسية وإعلامية زيارات متعددة إلى دمشق. واستقبل مطار المنستير الدولي شرقي تونس الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول) أول رحلة جوية قادمة من دمشق منذ 2012.
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي