الصين التي لم تعد تشبه ذاتها

الصين التي لم تعد تشبه ذاتها

26 سبتمبر 2018
+ الخط -
في مسار سعي الصين لكي تصبح دولةً عظمى، طرأت تغيُّرات على اقتصادها، أضفت على البلاد ملامح جديدة، تقطع مع الملامح المعروفة بها، والتي قدَّمت نفسها بها للعالم، وهي أنها دولةٌ اشتراكيةٌ، تعمل وفق مبدأ التضامن بين الشعوب. ومنذ أن أُقِرَّ برنامج الإصلاح الاقتصادي فيها، أواخر سبعينيات القرن الماضي، وُضِع الاقتصاد الصيني على سكةٍ أوصلته، في السنوات التالية، إلى مرحلةٍ أصبح خلالها رأسمالياً. ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل استمر القطار في مسيره، داخلاً في تجربة الاقتصاد الكلاسيكي القائم على العرض والطلب. واستمرت الإصلاحات، إلى أن مهَّدت لتكريس سياسات نيوليبرالية، بدا أنه لا يمكن للاقتصاد الصيني الفكاك منها، في ظل سعي القيادة الصينية إلى جعل بلادها قوة عظمى، وهو ما تمَّ، حتى صارت الصين التي يعرفها الجميع صيناً أخرى، لا تشبه ذاتها، على الصعيد الداخلي وفي علاقاتها الدولية.
كانت القيادة الصينية تسعى، اعتماداً على برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي أُقرًّ سنة 1978، إلى تبنّي بعض أساليب الرأسمالية في إدارة الاقتصاد، من أجل إعادة بناء اقتصادها، واللحاق بالتطور التكنولوجي الذي وصلت إليه الدول المتقدمة. وعلى الرغم من أن الطرح، ونقاش ما يُطرح، كان يتم بلغةٍ ماركسيةٍ ذات صبغةٍ صينيةٍ، حيث ثوابت الملكية العامة لوسائل الإنتاج، وتسخير القوى لتوفير حاجات الشعب. إلا أنه، مع مرور الأيام، ومع تكرّس الأساليب الرأسمالية في إدارة الإنتاج والمؤسسات والتجارة، تغيّرت تلك اللغة فأصبحت رأسمالية، تركّز على تحقيق الأرباح، وعلى فتح الأسواق أمام الإنتاج الصيني المتضخم.
بعد اتباع الأساليب الرأسمالية، تبدلت حاجات الشعب، وتغيرت أساليب الإنتاج، ما جعل الصين تصبح مصنعاً يلفّه الدخان في كل أرجائه، ويهيم فيه العاملون على وجوههم ذهاباً إلى العمل، 
وعودةً منه إلى السرير، مع الحلم بيوم عطلة، لا يستطيعون التمتّع به، حيناً، ويرفضونه، حيناً آخر، بهدف الحصول على ساعات عملٍ أكثر لتحقيق مكاسب أكبر، تتماشى مع المتطلبات الجديدة التي فرضها التطور التكنولوجي، والتي لم تكن في اعتبار أيٍّ من أفراد الشعب، قبل ذلك الإصلاح. يتناقض هذا كله مع التوجه الاشتراكي الذي تبنَّته الصين بعد ثورتها الاشتراكية، أواسط القرن الماضي، وكان من أهدافها تحرير العمال والفلاحين من نظام العمل شبه العبودي، وتحديد ساعات العمل عبر تقليصها.
أما بالنسبة للخارج، فقد ثبت أن الصين تتبع سياسةً براغماتيةً في علاقاتها مع دولٍ كثيرة، ولا سيما الأفريقية. وتجلَّت طبيعة هذه العلاقة مع تلك الدول واضحةً من خلال منتدى التعاون الصيني – الأفريقي، والذي عُقِدت قمته الثالثة في بكين، يومي 3 و4 سبتمبر/ أيلول الجاري. فعلى خلاف سياساتها السابقة تجاه الدول الأفريقية التي كانت تجمعها بها منظمة دول عدم الانحياز، والتي كانت دولها تنتهج منهجاً مستقلاً عن الدول الغربية، أو الاتحاد السوفييتي السابق، تفرض المصالح، لا الإيديولوجيا، نفسها على علاقة الصين الحالية مع الدول الأفريقية، بغض النظر عن طبيعة أنظمتها. وبعد أن كانت تتعاون، في السابق، مع الأنظمة التقدمية أو اليسارية، أصبحت الصين لا تمانع في تعزيز علاقاتها مع الدول الديكتاتورية القمعية التي تنتهك حقوق الإنسان، بل لم تمانع من دخولها، إلى جانب الدول الأخرى، في عضوية المنتدى المذكور. وحيث ترفض بعض الدول الغربية توسيع علاقاتها معها، بسبب هذه الانتهاكات، لا تمانع الصين ذلك.
وعلى الرغم من أن الصين تركِّز، في استثماراتها ومشروعاتها في أفريقيا، على تنمية البنية التحتية في هذه الدول، حيث تولي مشروعات مدّ الطرق والسكك الحديدية وبناء المرافئ ومحطات الطاقة الكهربائية والمياه، الأهمية، إلا أن هذا التوجه لا يعكس همّاً تنمويّاً، تأمل الصين في تعزيزه لمنفعة القارّة. بل تدخل هذه المشروعات ضمن استراتيجيتها التجارية التي تسعى إلى تكريسها عالمياً عبر مشروع "حزام واحد – طريق واحد"، أو ما عُرف باسم "الحزام والطريق"، الهادف إلى تحقيق طموحات صينية كونية عديدة، عبر التعاون الاقتصادي والتجاري والثقافي والسياحي مع بقية الدول.
قد يرى متابعٌ أن شروط الإقراض الصينية تختلف عن شروط إقراض الدول الغربية، سيما الشروط الأميركية عبر صندوق النقد والبنك الدوليين. لكن الصين تقدّم قروضها بضمانة الموارد الطبيعية التي تستثمرها في القارة، حيث تستثمرها وفق صِيَغ التعاون والشراكة الاستراتيجية التي تقول أدبيات منتدى التعاون الصيني – الأفريقي إنها تقوم عليها. ففي حال عجْز الدول الأفريقية عن سداد ديونها للصين، تسيطر الأخيرة على تلك الموارد، وعلى المرافئ، وغيرها من المشروعات. ولدى الصين تجارب مع دول عديدة، ولا سيما سريلانكا، حيث سيطرت على أحد موانئها (هامبانتوتا)، حين عجزت الأخيرة عن سداد دينٍ تلقته من الصين، سنة 2009، بشروط مُيسَّرة، في سعيها إلى إيجاد بديل عن الصناديق الغربية المجحفة، وهو ما أَطلق عليه معهد الدراسات الأمنية الأفريقي (Issafrica)؛ "دبلوماسية فخ الديون".
ربما ترى الدول الأفريقية في الصين الملاذ الآمن في الاقتراض، وفي توظيف استثماراتها، إذا ما قورنت بالدول الغربية ومؤسساتها المصرفية. حيث تلجأ إلى الصين، بسبب شروط الإقراض المجحفة التي تفرضها البنوك الغربية، ولا سيما صندوق النقد الدولي الذي تصل شروطه، في أحيانٍ كثيرة، إلى حد تقويضها سيادة الدول المقترضة. ومن أهم تلك الشروط تخصيص القطاع العام الذي تملكه الدولة، وبيعه للشركات الخاصة، عبر صفقاتٍ، غالباً ما يشوبها الفساد. كذلك يشترط رفع الدعم الذي تؤمنه الحكومات على السلع الأساسية من غذاءٍ ووقودٍ، إضافةً إلى 
إلغاء مجانية التعليم والطبابة، وهو استهدافٌ واضحٌ للطبقات الفقيرة، وإمعانٌ في إفقارها.
تتجنّب الصين فرض هذه الشروط الواضحة في عملية الإقراض التي تتبعها مع الدول الأفريقية، وكذلك في عملية توظيف استثماراتها فيها، كما أنه ليس لديها شروطٌ واضحةٌ تحدِّد الأمرين. لكن، تَبيَّن أن سياسة الإقراض الصينية تعمل وفق مبدأ "النقد مقابل الموارد". لذلك، فإن الدول الأفريقية التي تصل إلى مرحلة العجز عن سداد الديون، أو بدلات الاستثمار في المشروعات الإنشائية ومشروعات البنية التحتية، لا تجد نفسها إلا وقد وقعت في فخ التسديد القائم على التسليم بفرض الصين سيطرتها على الموارد الطبيعية التي تستثمر فيها، وخصوصاً النفط الغاز.
حافظت الصين على موقعها؛ أكبر شريك تجاري لأفريقيا، تسع سنوات متتالية، وبقيمة استثمارات بلغت 110 مليارات دولار، بحسب بيانٍ أصدره وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، عشية القمة أخيرا. وتحدث الرئيس الصيني، شي جين بينغ، في ختام أعمال القمة، عن تعهد بلاده تقديم 60 مليار دولار، لتمويل مشروعات التنمية في أفريقيا، خلال السنوات الثلاث المقبلة. كما تحدّث عن شطب ديون الدول الأكثر فقراً في القارة، من دون أن يحدّد آليات هذا الشطب، والتي يُشتمُّ منها عملية مقايضة، تُذكِّر بعملية السيطرة على ميناء هامبانتوتا السريلانكي.
كانت السياسات المالية الغربية، وخصوصاً الأميركية منها، أحد أسباب عداء الشعوب الدول الغربية. وكثيراً ما كانت تلك السياسات تؤدي إلى إفقار الدول، ودخولها في أتون اضطراباتٍ، ليس أقلها الوقوع في براثن حروب أهلية. وحيث أن الصين التي تنتهج النهج الاقتصادي الغربي، بعد تراجع النهج الاشتراكي عن توجيه اقتصادها وسياساتها الدولية، قد تحوّلت إلى قوةٍ عظمى تعتمد سياسة تحضير الأرضية دوليّاً أمام تجارتها واستثماراتها في الدول الفقيرة، وهو ما يعد نسخةً عن السياسة الأميركية، ما يحضر الأرضية، كذلك، لنزاعاتٍ في تلك الدول، تظهر الصين على إثرها صيناً لا تشبه التي كنا نعرفها.
46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.