فيلم الملاك وتسويق الأسطورة

فيلم الملاك وتسويق الأسطورة

30 اغسطس 2018
+ الخط -
أحدث الأساطير التي يسعى العدو الإسرائيلي إلى تسويقها هذه الأيام أسطورة "الملاك"، والتي تعتمد على فكرة ساذجة، مضمونها أن العناية الإلهية اختارت أن ترسل إليهم، باعتبارهم شعب الله المختار، في اللحظات العصيبة التي مرّت بهم في العام 1973 "ملاكاً" حارساً لإنقاذهم. ولتكتمل الأسطورة، فإن ذلك الملاك جاء إليهم من قلب العدو الذى كان متربصاً بهم، بل من كواليس أعلى سلطة سياسية، فهو صهر الرئيس جمال عبد الناصر الذي بنى شعبيته وزعامته العربية على قاعدة تحرير فلسطين، وهزيمة المشروع الصهيوني وكيانه "إسرائيل المزعومة". ولم يكن فقط صهر الزعيم، بل كان يعمل قريبا منه، وفي مكتبه للمعلومات، ثم نجح بعد رحيل الزعيم فى الاستمرار قريباً من السلطة العليا، حيث حاز على ثقة الرئيس أنور السادات، وشغل منصب مدير مكتبه للمعلومات، وكان مبعوثاً شخصياً له.
بداية الأسطورة أن ذلك الملاك لم يتم تجنيده بواسطة جهاز مخابرات العدو الذي يفاخر بكفاءته، أي الموساد، أو حتى عن طريق جهاز مخابرات دولي، حليف لهم، مثل المخابرات المركزية الأميركية، لكنه جاء ليقدّم خدماته طواعية للكيان الصهيوني، في مقابل مبالغ تافهة، ورمزية، بالنسبة لشخص مثله.
وتستمر الأسطورة، استمرّ الملاك يتواصل معهم، ويمدّهم بالمعلومات من داخل مطبخ صنع القرار في القيادة المصرية أعواما، حتى جاءت اللحظة الحاسمة في أكتوبر/ تشرين الأول 
1973، عندما كانت مصر تضع اللمسات الأخيرة لحرب تحرير سيناء، واستعادة الكرامة. في تلك اللحظات الفارقة، تقدم الملاك بأخطر خدماته، وهي إخطار العدو الإسرائيلى بيوم بدء تلك الحرب وساعتها، وهو آخر ضوء (السابعة مساء) من يوم السادس من أكتوبر. وهكذا تمكّن العدو الإسرائيلى من إجراء التعبئة الجزئية لقوّاته، بما يمنع القوات المصرية من اجتياح سيناء فى الموجات الأولى للهجوم وتهديد إسرائيل مباشرة.
هكذا أنقذ "الملاك" العدو الإسرائيلى من هزيمة ساحقة محققة.. تلك خلاصة الأسطورة التي يسعى العدو إلى تكريسها في الوعي العربي، عبر تجديد تسويقها بأساليب متعدّدة في كل مناسبة، خصوصا مناسبة ذكرى حرب أكتوبر.
ليست الأسطورة جديدة، فقد سبق تسريبها إعلاميا قبل بضع سنوات، من دون ذكر أسماء وتفاصيل، ثم نُشر كتاب "الملاك.. الجاسوس الذي أنقذ إسرائيل"، جرى الحديث فيه بشكل مباشر عن أشرف مروان، باعتباره الملاك المقصود، ثم صدرت ترجمة بالعربية للكتاب، وأخيراً تم إنتاج فيلم سينمائي، مستنداً إلى رواية الكتاب، بالعنوان نفسه، الملاك، يجري حاليا تجهيزه للعرض منتصف سبتمبر/ أيلول المقبل.
ليست المقالة هنا بصدد الدفاع عن أشرف مروان، ولا الرد على رواية العدو الإسرائيلى ودحض أسطورته، فليس الكاتب مخولا بذلك، ولا يملك معلومات ووثائق تصلح لذلك، ولكن هناك عدة ملاحظات رئيسية، جديرة بالاهتمام، قبل الانسياق وراء تلك الأسطورة، والتي يجرى تسويقها بوسائل فنية قد تكون مشوقة، والتي تخاطب أيضاً مشاعر من لديهم مواقف سلبية تجاه نظام عبد الناصر، وخلفه السادات، وربما تجاه نظام يوليو بأكمله، بما في ذلك حرب أكتوبر نفسها.
الملاحظة الأولى: لماذا كل تلك الضجة الإعلامية المثيرة، في هذا التوقيت بالتحديد؟ والتوقيت هو اقترابنا من ذكرى حرب أكتوبر التي نسترجع فيها أهم انتصارات العسكرية المصرية وأخطرها في تاريخها الحديث، والتي أحيت الأمل العربي، في القدرة على مواجهة المشروع الصهيوني، والتصدي لآلته العسكرية المتمثلة في الكيان الإسرائيلي. ومن ناحية أخرى، تمر القضية الفلسطينية بمرحلة فارقة، تتعرض فيها للتصفية، تحت ضغط هجمة صهيوأميركية، بتواطؤ وتغييب عربي. وتسويق أسطورة "الملاك" الذي ينقذ إسرائيل في الوقت المناسب، برعاية من السماء، يحمل في هذا التوقيت رسالة مهمة إلى الشعوب العربية، مفادها بأنه لا جدوى من استرجاعكم ذكريات انتصاركم العسكري، لأن المشروع الصهيوني مستمر، ويتقدّم، وسنجد دائماً ملاكا حارسا، يجنبنا الخطر وقت اللزوم، وعليكم أن تقبلوا قدركم هذا.
الملاحظة الثانية موضوعية، تتعلق بسياق الأحداث يومي الخامس والسادس من أكتوبر/ تشرين الأول 1973، فالثابت من خلال كل المصادر الأميركية والإسرائيلية أن المشكلة لدى العدو الإسرائيلي لم تكن في نقص المعلومات عن تحرّكات القوات واستعدادها على الجبهة المصرية، ولا في أن قياديي العدو الإسرائيلي وقواته كانوا في سُبات عميق، حتى أيقظهم "الملاك"، أو مبعوث العناية الإلهية فى اللحظات الأخيرة، فأجهزة المخابرات، والأقمار الصناعية الأميركية، كانت تتابع وترصد كل التحركات العسكرية على امتداد جبهات المواجهة مع العدو لحظة بلحظة، خصوصا في الأسبوعين الأخيرين قبل اندلاع الحرب، وتأكد لها الحشد العسكري على امتداد الجبهة المصرية. كما أن أجهزة الاستخبارات ووسائلها، وكذا الاستطلاع الميدانى للعدو الإسرائيلي، كانت ترصد بدقة ما يجري على امتداد جبهة قناة السويس، وقامت بمراجعة استعدادات الدفاع في تحصينات خط بارليف، وشبكة ضخ النابالم على امتداد القناة، بل أكثر من ذلك أن عمليات التعبئة المصرية كانت تتم بشكل شبه علني، في إطار مناورة إستراتيجية سنوية تجريها القوات المسلحة، فأين كانت المشكلة إذاً؟
كانت المشكلة الحقيقية في حالة الثقة المفرطة والغرور لدى قيادات العدو الإسرائيلي، ولدى الجانب الأميركي، وأدت هذه الحالة إلى حالة الإنكار الشديد التي انتابتهم لمجرّد فكرة احتمال إقدام مصر، والرئيس السادات خصوصا، على المغامرة باتخاذ "مثل تلك الخطوة المجنونة"، أي خطوة المبادأة بالحرب لتحرير الأرض. وقد جاء ذلك صراحة في تقرير لجنة أغرانات، والذي صدر فى كتاب بعنوان "التقصير"، وكان أفضل تعبير عن تلك الحالة رد فعل وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الأميركي، في ذلك الوقت، هنري كيسنجر، عندما أيقظه مساعدوه في فجر السادس من أكتوبر/ تشرين الأول 1973 بتوقيت نيويورك (الظهر بتوقيت القاهرة) ليخبروه أنه أصبح مؤكداً هجوم مصر وسورية خلال ساعات قليلة على إسرائيل، وهو ما حدث مع بداية الساعة الثامنة بتوقيت نيويورك (الثانية بتوقيت القاهرة)، فانطلق يقول: ماذا يفعل هؤلاء العرب غير العقلاء، إسرائيل ستسحق مصر؟ وعلى جانب العدو الإسرائيلي، كانت حالة الإنكار قد بلغت مداها، وظهرت مقولات، مثل دع المصريين يبدأون الحرب، فسوف 
نلقيهم في القناة. وحدثت خلافات حادّة داخل القيادة الإسرائيلية، وتوالت اجتماعاتهم، والتي كان جديدها يوم الخامس من أكتوبر/ تشرين الأول، اجتماعا عاصفا، اتفقت فيه آراء أجهزة الاستخبارات مع رأي وزير الدفاع، موشيه دايان، استبعاد احتمال قيام مصر بالحرب، ولكن كان لرئيس الأركان، الجنرال ديڤيد إليعازر، رأي آخر، باعتباره القائد العسكرى المسؤول، وهو ضرورة البدء في التعبئة العامة إجراء احترازيا، واستند في ذلك إلى المعلومات العسكرية المباشرة الواردة من الجبهة عبر وسائل الاستطلاع الميداني، بعكس وجهة نظر أجهزة الاستخبارات في ذلك الوقت، والتي تروج الآن أسطورة "الملاك". وعلى أي حال، سواء تمت التعبئة بناء على طلب رئيس الأركان مساء يوم الخامس من أكتوبر، في إجراء عسكري احترازي، أو بناء على تقرير استخباراتي مبني على بلاغ "الملاك"، فإن ذلك القرار لم يكن هو ما أنقذ إسرائيل، لأن العمليات العسكرية سارت في سياق مختلف.
تبقى الملاحظة الأخيرة، وهي المتعلقة بمن أنقذ إسرائيل حقيقة. وطبقاً لنداءات رئيسة الوزارة غولدا مائير "أنقذوا إسرائيل"، ودراسات كل المعاهد ومراكز البحث والتفكير الأميركية المتخصّصة، هو "الجسر الجوي الأميركي الذي أنقذ اسرائيل"، والذي بدأ في 13 أكتوبر/ تشرين الأول 1973، والمعروف باسم "Air lifts which saved Israel".
وإلى أن تأخذ حرب أكتوبر حقها من الدراسة العلمية الموثقة، يجب أن يبقى نصر أكتوبر العسكري، والذي حدث على مرأى ومسمع من العالم كله، وعلى مسارح العمليات البرية، والجوية، والبحرية، علامة بارزة في تاريخ العسكرية المصرية الحديثة. وستبقى حرب أكتوبر، بكل جوانبها السياسية، والإستراتيجية، والاقتصادية، رمزا لقدرة العرب على الفعل، إذا توفرت لهم الإرادة، على الرغم من كل المحاولات الخبيثة، وطرح الأساطير الوهمية، لطمس تلك الحقائق.

دلالات

2FABA6BB-F989-4199-859B-0E524E7841C7
عادل سليمان

كاتب وباحث أكاديمي مصري في الشؤون الاستراتيچية والنظم العسكرية. لواء ركن متقاعد، رئيس منتدى الحوار الاستراتيجى لدراسات الدفاع والعلاقات المدنية - العسكرية.