"أونروا".. هذا العنوان السياسي

"أونروا".. هذا العنوان السياسي

29 اغسطس 2018
+ الخط -
أعلنت الولايات المتحدة أنها ستعيد توجيه أكثر من مائتي مليون دولار، كانت مخصّصة للمساعدات الاقتصادية في الضفة الغربية وغزة، إلى برامج في مناطق أخرى. في خطوة تأتي استمرارا للابتزاز السياسي التي تمارسه إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في حق السلطة الفلسطينية، ورئيسها محمود عباس، للحصول على مزيد من تنازلات سياسية مطلوبة أميركيا، لإتمام صفقة القرن التي بدأت تتكشّف ترتيباتٍ جديدةٍ لتصفية القضية الفلسطينية، خصوصا ما يتعلق منها بالقدس وحق العودة.
تجسّدت تلك الترتيبات، في بعض وجوهها، بخطوتي نقل السفارة الأميركية إلى القدس، اعترافا أميركيا بها عاصمة لإسرائيل، تلاها إقرار الكنيست قانون "الدولة القومية" الذي يطمس الهوية العربية، ويجرّد من بقي من فلسطينيين داخل الأراضي المحتلة عام 1948 من حقوقهم، معلنا إياهم أقليةً غير معترف بها، وضحايا لعنصرية لا محدودة، كما يغلق الباب أمام أي عودةٍ محتملةٍ للاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم التي شرّدتهم منها آلة الحرب الصهيونية.
تستكمل خطوة إيقاف المساعدات للسلطة الفلسطينية معركةً يشنها ترامب وإدارته على كل ما هو فلسطيني: مؤسّساتهم، هياكلهم التمثيلية، منظمات دولية وإقليمية تساندهم، ووجودهم في حد ذاته. ولا تزال المعركة ضد وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) على أشدها.
بعد انطلاق مؤتمر مدريد للسلام في عام 1991 شنّت وسائل إعلام إسرائيلية، ونواب كنيست، وسياسيون في إسرائيل، حملة للتشهير بالوكالة الأممية، عبر تحميلها مسؤولية إطالة أمد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، واتهام مدارسها ومناهجها ببث الكراهية في نفوس التلاميذ الفلسطينيين ضد إسرائيل، وبأن تلك المدارس، وغيرها من منشآت الوكالة، إن هي إلا مستودعات للأسلحة، وأوكار للإرهابيين. ولم تتردّد، في أثناء اعتداءاتها المتكرّرة على قطاع غزة، في قصف منشآت الوكالة ومقارّها أمام مرأى ومسمع من العالم كله. اليوم تجد إسرائيل في ترامب مخلصا وجوديا لها عبر مساندتها في تصفية "أونروا" التي باتت العنوان السياسي الأبرز لقضية اللاجئين الفلسطينيين، ما يشكل تهديدا وجوديا لهم.
نظرت الإدارة الأميركية إلى "أونروا" منذ تأسيسها في 1948 عنصرا يُسهم في تثبيت 
الاستقرار في الأراضي المحتلة، ومخيمات اللاجئين في الدول المضيفة، تتحمّل أعباءهم الإنسانية، وتلبي حاجاتهم الرئيسة، وتموّه مسؤولية إسرائيلية عن التسبب بقضية اللاجئين الفلسطينيين، وأوضاعهم المترديّة. لذا، لم يكن غريبا، ولا مستغربا أن تكون الولايات المتحدة المساهم الأكبر في تمويل "أونروا" (حوالي ثلث موازنتها سنويا) التي باتت برامجها تقدم خدمات ومساعدات لحوالي 5.2 مليون لاجئ فلسطيني.
ومنذ تأسيسها عام 1949، اعتمدت "أونروا" في عملها على مساهمات المتبرّعين، ولم تخصص لها موازنة ثابتة، على غرار غيرها من منظمات الأمم المتحدة. ومع تعاظم أعداد اللاجئين، وحاجاتهم المختلفة، تحتاج الوكالة اليوم إلى مليارين ونيف، للوفاء بالتزاماتها، لكن أزماتها المالية المتكرّرة، نتيجة نقص التمويل بشكل رئيس، في ظل تردّي أوضاع اللاجئين، لاسيما بعد الإضرابات التي تعصف بالشرق الأوسط، أدت إلى عجز الوكالة عن تلبية الحد الأدنى الضروري.
لم تعد سياسة ترشيد الإنفاق، وضغط المصاريف، وإيجاد بدائل مقبولة لخدماتٍ كانت تقدّمها الوكالة للاجئين الفلسطينيين سياسة فاعلة اليوم، وهي التي كانت دائما عرضةً لردّات فعل اللاجئين الفلسطينيين (إضرابات، واعتصامات، ووقفات احتجاجية)، تصاعدت أخيرا مع اضطرار "أونروا" إلى تسريح عدد من موظفيها في غير مكان، واستبدلت الدوام الكامل لآخرين بدوام جزئي. أما الحصول على تمويل إضافي لـ "أونروا" فبات مسألةً متعثرة، في ظل تنافس محموم للحصول على تمويل الجهات الدولية بين منظمات وهيئات الإغاثة، التي تزايدت عددا وعديدا، العاملة في الإشراف على شؤون لاجئين غصّت بهم بقاع المعمورة.
تنضم الإدارة الأميركية اليوم، بشكل علني ومكشوف، إلى الجانب الإسرائيلي في السعي الحثيث لتصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين، عبر تصفية وجود الأونروا. فتصدّت الولايات المتحدة في عام 2016 لمشروع قرار في الأمم المتحدة تقدّمت به فلسطين يسمح للأونروا بالحصول على ميزانية ثابتة، من ضمن آليات منظمات الأمم المتحدة، للتخفيف من حدة أزمتها المالية. وللإجهاز على الوكالة المترنحة ماليا، أعلن ترامب مطلع العام الحالي التراجع عن تمويل أونروا، لتجمّد واشنطن مبلغ 300 مليون دولار من أصل مبلغ إجمالي قدره 365 مليون دولار، ساهمت بها في عام 2017.
فعليا، ليست المعركة الأميركية ضد "أونروا" ضغطا على القرار السياسي الفلسطيني لتقديم تنازلات، والعودة إلى طاولة المفاوضات وحسب (ربطت مندوبة واشنطن في الأمم المتحدة، نيكي هيلي، بين استئناف مساهمة بلادها في "أونروا" وعودة الفلسطينيين إلى طاولة المفاوضات)، بل تتجاوزه إلى تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين. عبّر مستشار الرئيس الأميركي جاريد كوشنر (مهندس صفقة القرن، ومنسق الحملة ضد "أونروا") عن ذلك من دون مواربة، حين رأى في إغلاق "أونروا" طيّا لملف اللاجئين الفلسطينيين نهائيا.
ويسعى ترامب، وفريقه السياسي، إلى تكريس توجهاتهم الحالية ضد "أونروا" قانونا يُلزم أي إدارة أميركية لاحقة. فمنذ مايو/أيار الماضي، يناقش الكونغرس مشروعي قرار، تتلخص
بنودهما في حصر تعريف اللاجئ الفلسطيني بمن تشرّد خلال نكبة عام 1948، واستثناء الأجيال الفلسطينية اللاحقة (وهو ما يتماشى أساسا مع القانون الأميركي)، ويكون على الإدارة الأميركية، بالتالي، صرف مساعداتٍ لحوالي أربعين ألفا فقط من اللاجئين الفلسطينيين، ما يعني تقليص المساعدات بإلزام الخزينة أن تأخذ في الاعتبار هذا المعطى الجديد، عند صرف أي موازنة للوكالة، وعلى وزارة الخارجية تقديم تقرير بعدد اللاجئين الذين تلقوا المساعدات، وبيان مكان إقامتهم في الأراضي المحتلة قبل عام 1948.
تتجاوز المعركة ضد "أونروا" الشأن المالي، والابتزاز السياسي، إلى نيّةٍ تتوضح أهدافها في تصفية قضية اللاجئين سياسيا، وربما التمهيد لإلحاقهم بالمفوضية السامية لشؤون اللاجئين (عارضت الإدارات الأميركية ذلك عقودا)، ما يلغي وجودهم موضوعا سياسيا، والاكتفاء بالبحث عن مناطق آمنة لهم، تمهيدا لتوطينهم، بعد تصفية تجمعاتهم ومخيماتهم في الأردن والعراق ولبنان، وأخيرا في سورية.
في ظل تواطؤ بعض العرب، وتخلي بعض آخر، وفي ظل ترهّل المؤسّسات السياسية للشعب الفلسطيني، وفشل فصائله، ونخبه السياسية، في تنمية مقوّماته ومقدّراته الذاتية واستثمارها وطنيا، ليس ثمّة ما يمنع ترامب وبنيامين نتنياهو من تمرير صفقة القرن، وتصفية قضية اللاجئين. قد يقف الجميع متفرّجا، إما متحسرا أو شامتا، أو ساذجا يعوّل على سقوط داخلي لترامب. وحتى ذلك الحين، ينضم اللاجئون من فلسطينيين إلى ملايين آخرين من لاجئين في كل مكان، في انتظار مستقبل مجهول.
حسام أبو حامد
حسام أبو حامد
كاتب وصحافي فلسطيني. من فريق موقع العربي الجديد قسم السياسة.