نصر غير مؤزّر لغزة

نصر غير مؤزّر لغزة

23 اغسطس 2018
+ الخط -
(1)
من المهم أن تنتصر في معركةٍ ما، لكن الأهم أن تحوّل نصرك إلى إنجازات، تقطف ثمار هذا الجهد. المفارقة البليغة حد الفجيعة هنا أن ثمّة أناسا يقدرون على تحويل هزائمهم إلى انتصارات وهمية، وفي الوقت نفسه، يحوّلون انتصارات الآخرين إلى هزائم، بحرمانهم من قطف ثمار نصرهم.
(2)
في عُرف سوق بنات الليل، تكره المتورّطة في بيع جسدها أن ترى بنتا شريفةً عفيفة، وتتمنّى من أعماقها أن تتحوّل بنات جنسها إلى بائعات هوى، كي يتساوى الجميع، "وفش حدا أحسن من حدا". هذا حال من يتورّط في شرب الخمر، إنه يحاول بشتى الطرق أن يعاقر كل من هو في "الجلسة" الكأس ذاتها، ويتعاون الجميع على توريط المتعفّف، ولو من باب: "جرب لك كأسا".
ثمّة ظواهر نبيلة في حياتنا، نحن العرب، "تحرج" المتعفّفين عن النبل، الوالغين في الطين، حتى أن من يحقّق شيئا من الانتصار تتكالب عليه القوى من كل جانب، لتحويل انتصاره هزيمة، بحرمانه من قطف ثمار تعبه. هذا ليس مبرّرا للتوقف عن محاولة الانتصار، بل هو سببٌ إضافيٌّ للباحثين عن الكبرياء والكرامة أن يتشبثوا بخيار المقاومة، أعني مقاومة الهزيمة والامتثال لمشيئة العدو، أي عدو.
(3)
أعداء النجاح موجودون بكثرة، وطلاب اعتذارهم عن هذا النجاح أكثر منهم، فهم أكثر من الهمّ على القلب، بل إن جهد الوصول إلى النجاح يقلّ أحيانا عن الجهد الذي يبذله الناجح، وهو يدافع عن نجاحه، وأحقيّته في تحقيقه. ومع هذا، لا يكفّ الناجحون عن النجاح، ولا يحسبون حساب المتربّصين بهم، كي يعتذروا عن نجاحهم.
لم يتعرّض فعلٌ نبيلٌ في حياة الأمة لتشويه وتدمير وتحقير وتتفيه، كما تعرّض ما دعي بالربيع  العربي، باعتباره سببا لجلب الخراب وإراقة الدماء. وينسى هؤلاء، أو يتناسون، أن سبب تلطيخ ذلك الفعل النبيل بالطين ليس الربيع، بل مقاومته، كأن من يمتطي هذا التفسير يقول: إياكم أن ترفعوا رؤوسكم، لأن النتيجة ستكون الخراب، وهذا فخٌّ وقع فيه أحبابٌ كثيرون، وخصوصا الكتّاب الذين يرون أن وراء كل فعل في بلاد العرب مؤامرة كونية.
شبيهٌ بما آل إليه الربيع، ثورات وانتفاضات وحروب خاضها مستضعفون وانتصروا، لكنهم
 حرموا من قطف ثمار انتصارهم بكل السبل، وهذا سببٌ كافٍ لكي لا يستسلم أحدٌ لمثل هذه المثبّطات، فيختار الركون إلى الأرض والرضى بالظلم. مقاتلو النجاح ومحاربو الانتصار لن يضعوا أسلحتهم الموجهة إلى طلابهم، وكذا هو الأمر لمن يقاتل من أجل كرامته، وكرامة أمته. لكن يلزم الفئة الثانية صبرٌ كثير، كي تصبح على مستوى قطف ثمار إنجازاتها.
‏‫ ‬(4)
كتب المعلق الصهيوني رفيف دروكر في "هآرتس" يوم 20 أغسطس/ آب الحالي: حراك مسيرات العودة أثبت أن إسرائيل تخضع فقط تحت تأثير القوة، لأنها وافقت على إعادة النظر في سياستها تجاه غزّة بشكل جذري، تحت طائل الصواريخ والبالونات المشتعلة، في حين تواصل الاستخفاف بمحمود عباس وسلطته.
المقاومة في غزة انتصرت، صحيح أنه ليس نصرا مؤزّرا كاملا، لكنه نصرٌ على أي حال، فقد خضع الكيان الصهيوني، وسعى بنفسه إلى التفاوض مع من كان يرفض التفاوض معه، باعتباره جهة "إرهابية"، وهو أمر عجزت عن تحقيقه ليس السلطة الفلسطينية فقط، بل دول عربية لها شأنها، ها هي تحمل البشكير للصهيوني، تأتمر بأمره.
مهما كان مصير اتفاق التهدئة الذي يحاربه القريب قبل البعيد، هو نصرٌ على نحوٍ ما، فقد كان العدو يرفض مجرّد البحث بمطالب غزة، ومع صمودها وتحدّيها، صار هو الذي يبادر للبحث عن مخرجٍ لأزمتها، و"يتوسّط" لها لدى من يحاصرها من العرب، كي يخففوا عنها الحصار، باعتبار أن زيادة الضغط عليها تدفع نحو المواجهة العسكرية، وهو ما لا يريده العدو، لأنه اختبر هذا الطريق، ولم يوصله إلى مبتغاه.
لو كانت الأمة على قدرٍ ما من التحرّر، ووقفت على الحياد على الأقل، ولم تحارب غزّة سرا وعلانية، ومن معها، لكان نصر غزّة مؤزرا. ولكن، مع كل ما عانته هذه البقعة من ظلمٍ وعسف، ربما تكون هي الأرض العربية الوحيدة المحرّرة، مع أنها في حالة حصار برّي وبحري وجوي منذ ثلاثة عشر عاما ونيّف.