يوليو.. منذ الربيع العربي

يوليو.. منذ الربيع العربي

13 اغسطس 2018
+ الخط -
حتى وقت قريب، كانت لذكرى ثورة 23 يوليو في مصر، والتي مرت قبل أيام، قيمة كبيرة في التاريخ العربي مما هي له اليوم، فالواقع أن مكانة تلك الثورة في الوجدان الشعبي العربي عموماً تغيّرت بعد ثورات الربيع العربي ومخرجاتها، كما يظهر من الاستذكار الباهت لها، والاحتفاء غير الحارّ بها هذه الأيام. صحيح أن ذكرى ثورة يوليو التي قادها جمال عبد الناصر والضباط الأحرار في مصر، عام 1952، لم يبق منها إلا الاسم، منذ مشى أخلافه على خطّه بـ"أستيكة" (ممحاة)، كما يتندّر المصريون، إلا أن ثورات الربيع العربي، وهي ثورات شعبية، على غير تلك العسكرية التي مثلتها ثورة يوليو، قد عدّلت مسارات التاريخ العربي، وصنعت فيه أحداثاً جديدة ذات قيمة كبرى. ويبقى أن من الممكن الجدال بأن النتائج الحقيقية والعميقة للربيع العربي لم تتبدَ حتى الساعة.
الحال أن المرحلة التاريخية، منذ قيام ثورة يوليو في 1952 وحتى اندلاع ثورات الربيع العربي في عام 2010، تمثل خطاً تاريخياً واحداً. وهذا يفسّر كيف أن ثورة يوليو حافظت على قيمة ثابتة، طوال تلك الفترة، لكنها تراجعت لصالح أحداث جديدة مع الربيع العربي الذي بات يمثل خطاً تاريخياً مستحدثاً.
في منطق التاريخ، يمثل القرنان الأخيران من عمر العالم العربي وحدة زمانية واحدة، عاشت فيها بلادنا ظرفاً حضارياً واحداً، وقضية حضارية واحدة. صحيح أن هذه الوحدة الواحدة مرّت بعدة انعطافات، صنعت هذه "الخطوط" المتباينة المتحدّث عنها هنا، خصوصا مع نزول الاستعمار العسكري في بلادنا منذ منتصف القرن التاسع عشر، ثم رحيله عنها في منتصف القرن العشرين، غير أنها لم تعرف انقطاعاتٍ تجعلها تقسّم إلى مراحل وفترات.
والمعنى أن ظهور الدولة العربية الأولى، في مصر، قبل نحو قرنين، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بثورات الربيع العربي، حين اندلاعها أول مرة في أواخر عام 2010 ومطلع عام 2011؛ ذلك أن الأخيرة مثلت امتداداً تاريخياً للأولى: قضيتهما رفض التخلف، والسعي إلى النهضة. كذلك هي الحال، بالنسبة للكفاح ضد استعمار الأوروبيين بلادنا، وظهور الجماعات والأحزاب السياسية المؤدلجة في النصف الأول من القرن العشرين، ثم قيام الدولة العربية المعاصرة التي عرفت تالياً الانقلابات العسكرية أداةً لبلوغ الحكم، ثم الاستبداد المطلق بذريعة حماية الأوطان، والتصدّي لإسرائيل والإمبريالية الإمبراطورية الأميركية، وصولاً إلى انفجار ثورات الربيع العربي.
هكذا، تراجعت القيمة الاحتفالية لثورة يوليو، لأن تاريخ العرب المعاصر قد انثنى باندلاع ثورات الربيع العربي، على الرغم من أننا ما نزال نعيش المرحلة التاريخية نفسها منذ أكثر من مائتي سنة. هل يشكل ذلك يا تُرى أمراً محزناً بالنسبة للحالمين بالنهضة الحضارية؟ أظنه يمثل أمراً محزناً لمن يحبّون عبد الناصر ويقدّرونه حق قدره، من دون أن يدركوا كليّات التاريخ. كانت ثورة يوليو (يضيف أنصارها لقب "المجيدة" في وصفها) نقطة مهمة في التاريخ العربي الطامح إلى النهوض، لكنها لم تكن أبداً نقطة البدء فيه. إنها ليست نقطة الأصل التي يجب أن تظلّ لها القيمة الكبرى. 
إنْ كنّا نريد تحقيق مُرادنا في التخلص من التخلف، والانتقال إلى التقدّم والنهوض، علينا إدراك كليّات التاريخ: لقد حاولنا مراراً، منذ نحو مائتي سنة، أن نتجاوز التأخر ونلج في النهضة؛ مرة بتأسيس دولة حديثة، وأخرى بالتجديد الفكري، ثم بالكفاح المسلح، ثم بالثورات والانقلابات العسكرية، لكننا كنا دائماً نخفق؛ تارة بسبب الاستعمار، وأخرى بسبب عدم الجاهزية الفكرية والعلمية، وثالثة بسبب الاستبداد. وها هي الشعوب العربية قد حاولت من جديد من خلال نوع مختلف من الثورات، وعلينا أن نأمل بأن ثوراتها قد فتحت أبواب التاريخ، وربما خسرت جولة ولم تخسر المعركة.
في المجمل، تراجعت مكانة ثورة يوليو منذ ثورات الربيع العربي، لكنها ستبقى نقطة مضيئة في تاريخ العرب المعاصر، الحالم بالنهوض.

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.