مصر والعراق خطّان أحمران

مصر والعراق خطّان أحمران

05 فبراير 2024
+ الخط -

عقب مباراة كرة القدم بين منتخبي الأردن والعراق، في خضم بطولة كأس آسيا المقامة في قطر، أدركتُ لماذا يحمل جيل الآباء حبّاً خاصاً لمصر، يختلف عن حبّهم أي بلد عربي آخر... شهدت المباراة التي فاز فيها الفريق الأردني تنافساً غير مسبوق على التشجيع بين جمهوري الفريقين، قبل المباراة وفي أثنائها، على مدرّجات الملعب كما في خارجه، خصوصاً عبر وسائل التواصل الاجتماعي. ثم شهدت أجواء ما بعد المباراة تلاسناً "غير أخوي"، خصوصاً بسبب افتراض الجمهور العراقي أن الحكم (الأسترالي من أصول إيرانية) ظلمهم وانحاز ضد فريقهم بطرده نجم هجوم الفريق أيمن حسين، لاحتفاله بطريقة اعتبرها الحكم مستفزة حين أعاد تمثيل مشهد أكل المنسف الأردني عقب تسجيله هدفاً ثانياً، وهو المشهد الذي كان أدّاه لاعبو الفريق الأردني عند تسجيل هدفهم الأول.
شدَّ ذلك التلاسن "غير الأخلاقي" شباباً صغاراً وأشخاصاً طائشين من الجمهورين، لتبادل شتائم غير مهذّبة، منها ما يرتكز على بعد طائفي (سنّي شيعي). وقد وجدتُ نفسي، أنا الأردني الذي لم يزر بغداد يوماً، ولم يُعجب برئيسه السابق صدّام حسين على غير حال معظم الأردنيين، أتألم لأي إساءة تطاول العراق أو العراقيين كما لو أنها موجّهة لي شخصياً أو لأمي وأبي وأولادي، حتى لو صدرت من أولئك الطائشين الذين يظنون أنهم يدفعون الأذى عن بلدهم، إذ يظلّ العراق عندي رمزاً لكل الأمل والألم الذي عاشه جيلي منذ كانت بلاد الرافدين تسمّى "البوابة الشرقية" للدفاع عن الأمة العربية قبل نيّفٍ وأربعين سنة، وصولاً إلى يومنا هذا الذي لا يزال فيه اسم العراق مطابقاً لمعاني البراءة والإخلاص والذكريات الجميلة.

يظلّ العراق رمزاً لكل الأمل والألم منذ كانت بلاد الرافدين تسمّى "البوابة الشرقية" للدفاع عن الأمة العربية

ورغم أني أحب مصر وزرتها مراراً، فإني أحبها كحبّي أي بلد عربي آخر، يضاف إليه الإعجاب بنهضتها المبكّرة في العصر الحديث، وإبداع أبنائها في الفكر والفن والعلوم والرياضة. غير أنني، للأسف، لا أتوفر على حنين خاص لها يرتبط بذكريات الطفولة والشباب المبكّر، كحال حنين آباء جيلي وأجداده؛ أي ذاك النوع من الحنين المرتبط بالأمل، الذي عاشه الآباء في خمسينيات القرن العشرين وستينياته. لكني وجيلي، نحن الذين ننتمي إلى عقد السبعينيات وما بعده، نتوفّر على ذلك النوع الخاص من الحنين تجاه العراق.
مهلاً. هذا لا يعني أنني أبارك ذاك التاريخ السياسي المصري في الخمسينيات والستينيات الذي أهدر موارد البلد بسبب سوء التخطيط، ولا التاريخ السياسي العراقي في الثمانينيات والتسعينيات الذي فعل الشيء نفسه بالتنمية ومواردها، فلولا ذاك التهوّر السياسي والعسكري، وسوء التخطيط الاقتصادي والتنموي، لكانت مصر والعراق اليوم في مصافّ الدول الصناعية المتقدّمة، نظراً إلى تمتعهما بما لا يتمتّع به سواهما من الدول العربية: أعني الجمع بين تنوّع الموارد الطبيعية ووفرتها، وتميز الموارد البشرية وكفاءتها.

إنه ذاك النوع الغامض من الحنين إلى الأمل، الذي ينبُت في وجدان المرء خلال طفولته وشبابه المبكر

لكنني إنما أتحدث عن الحنين إلى الأمل. ذاك الأمل الذي بتنا، نحن العرب، نفتقده اليوم: الأمل بالنهضة والتقدم والإنجاز والعودة إلى التاريخ... لذا، لم أحب أبداً أن يرد الجمهور الأردني على الجمهور العراقي بعد مباراة كرة القدم تلك، حتى لو قال بعض أفراده كلاماً غير مسؤول، لأنه بالضرورة لا يمثل شعب العراق الكريم العظيم، الذي نعرف، نحن الأردنيين، خصاله الطيبة أكثر من غيرنا، نظراً إلى طول العشرة بيننا في العقود الأخيرة، لأسباب سياسية واقتصادية قاسية نعرفها، ولا أود استذكارها. ثم لأننا نحمل ذكرياتٍ خاصة عن منافسات كرة القدم مع منتخب العراق خلال الثمانينيات والتسعينيات، فقد كانت استضافة العراق في استاد عمّان الدولي مناسبة لاحتشاد جماهيري هائل، لمشاهدة مباراة غاية في التنافس تنتهي بتفوّق أحدهما بفارق هدف واحد على الأغلب. ولا ينسى الجمهور الأردني كيف حبَست أنفاسَه تلك المباراة الحماسية التي جمعت الفريقين في نهائي الدورة الرياضية العربية عام 1999، عندما عاد الفريق العراقي لإحراز التعادل أمام الفريق الأردني الذي تقدّم أولاً بأربعة أهداف نظيفة. يضاف إلى ذلك ما فعله منتخب العراق في ذاكرة جيلي عندما لعب في كأس العالم عام 1986، وكنّا، نحن الأردنيين، أنصاراً طبيعيين له؛ لا جدال ولا تردد في ذلك، وهتفنا لهدف نجمه الذهبي "أحمد راضي" خلال تلك البطولة كما لو أن كل واحد منا سجله بنفسه.
لقد وجدُتني أنتفض غضباً من أجل العراق، الذي لم أختبر زيارته أو العيش فيه، تماماً كما كنتُ أرى من هم أكبر منّي سناً، من الآباء والأجداد، ينتفضون بطريقةٍ مدهشةٍ غير مفهومة عند ذكرٍ غير إيجابي لمصر. كنت أظنُّ أن الأمر يرتبط بأنها كبرى البلاد العربية من حيث السكان، ورائدتها من حيث التاريخ، لكني اليوم أحسب أنني أدركتُ جوهر السبب: إنه ذاك النوع الغامض من الحنين إلى الأمل، الذي ينبُت في وجدان المرء خلال طفولته وشبابه المبكر، ثم يحتفظ به طوال العمر حتى لو تغيرت أفكاره وأهواؤه وقناعاته.
مصر والعراق خطّان أحمران في ذاكرة الأجيال العربية لا يجوز تجاوزهما بالإساءة أو الكلام غير المسؤول، ولا قيمة ولا بقاء لما يفعله الطائشون.

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.