اعتراف ما بعد خراب البصرة

اعتراف ما بعد خراب البصرة

25 يوليو 2018

هادي العامري.. هل ينال عفوا طلبه؟ (18/10/2016/فرانس برس)

+ الخط -
لأن المشكلة بشأن العراق تجاوزت سؤال: ماذا بعد الانتخابات البرلمانية؟ إلى سؤال: ماذا بعد انتفاضة البصرة؟ فقد تذاكى زعيم منظمة بدر، هادي العامري، متطوعا لتسويق نظرية "الاعتراف والاعتذار وطلب العفو"، وهو في الحقيقة يريد إعادة إنتاج "العملية السياسية" الماثلة من جديد، مراهنا على ذاكرة العراقيين المتعبة، كي يحصل هو، والطبقة السياسية التي يمثلها، على شهادة "حسن سلوك"، ولو مزوّرة، تؤهله للبقاء في نادي السلطة خمسة عشر عاما أخرى، أو ريثما تستطيع إيران التي يدين لها بالولاء إخراج العملية السياسية من مأزقها الحالي، حيث ترقد في غرفة العناية المركزة وإنقاذها من الموت، ولا يضيره في ذلك أن يعترف أمام الملأ بأن الطبقة السياسية التي حكمت العراق بعد الغزو، وهو في مقدمتها، قصّرت في حق العراقيين، وعجزت عن توفير الحياة الكريمة لهم، وفشلت فشلا ذريعا في إدارة البلاد، ويطلب من أقرانه أن يحذوا حذوه، ومن الشعب أن يعفو عنهم ويصفح!
وهو نفسه إذا ما راجعنا أوراقه كان قد أنكر سابقا أن يكون في العراق فقراء أو عاطلون، وزعم أن "الفقر في العراق أكذوبة، وأن كل شيء في العراق متاح لجميع المواطنين من دون مقابل: الماء والكهرباء والتعليم والخدمة الصحية والبطاقة التموينية"، في حين أن كل التقارير والإحصائيات الرقمية الصادرة عن منظمات دولية وإقليمية معتبرة كشفت عن الدرك الذي وصل إليها الحال في العراق، حيث وضعته في مقدمة الدول الأكثر فسادا في العالم، ومن أسوأ البلدان في توفير الخدمات والاحتياجات الإنسانية لمواطنيه، وكذلك في الالتزام باحترام حقوق الإنسان وكرامته، وها هي انتفاضة البصرة وكل العراق تكذّب ادعاءات العامري، وتدفعه إلى التراجع والمسكنة وطلب العفو!
والمضحك المبكي أن العامري هو نفسه الذي اصطفّ مع الجيش الايراني وحارب جيش بلده في حرب السنوات الثماني. وهنا قد يعترض على كاتب هذه السطور عديدون ممن نعرف، ليوضحوا أن العامري كان في دفاعه عن إيران منسجما مع نفسه ومع ولائه، وهو من تولى التحقيق مع الأسرى العراقيين في الحرب، وأشرف على تعذيبهم، وثمّة اتهامات لرجال منظمة بدر التي يتزعمها بتنفيذ عمليات قتل وخطف وتهجير كوادر علمية وكفاءات مهنية واعدة عديدة، تنفيذا لمخططات مشبوهة، هذا كله عدا ما ارتكبه في أثناء تسنمه منصب وزارة النقل في العقد الأخير، والتي شهدت في أثناء توليه لها وقائع ملتبسة، تركت وراءها علامات استفهام كثيرة، مثل التوقيع على عقود شراء طائرات نقل وعربات قطار، ومشروع ميناء الفاو الكبير، وادارة المنافذ الحدودية، وجديدها واقعة منع طائرة لبنانية من الهبوط في مطار بغداد، بأمر من نجل الوزير اللعوب الذي يصفه شباب بغداد بأنه "وزير ونصف"، لأن الطائرة غادرت مطار بيروت في موعدها المثبت، ولم تنتظر وصوله متأخرا لتقله كما أراد، وهو الأمر الذي عرّض سلامة ركاب الطائرة إلى الخطر، ومرّت الحادثة من دون حساب.
عبر هذا السجل العريض من "الموبقات"، لم يستطع العامري أن يتقدّم خطوة شجاعة واحدة، بعد اعترافه المتأخر واعتذاره وطلبه الصفح والعفو، وأن يعرض استعداده للمثول أمام القضاء لتبرئة ساحته، أو على الأقل أن يقرّر اعتزاله العمل السياسي، والاكتفاء من الغنيمة بالإياب. هنا لا يستطيع المراقب المحايد أن يرى في اعتراف العامري واعتذاره سوى صورة هزلية لواقع حال الطبقة الحاكمة في العراق، ولن يفكّر عراقي واحد في الصفح عن مرتكب كل هذه "الكومة" من الأخطاء والخطايا، أو في منحه حكما بالبراءة.
على أن هادي العامري ليس النموذج الوحيد من بين رجال "العملية السياسية" الذين يصطنعون، في الوقت الضائع، صحوة ضمائرهم، وندمهم على ما ارتكبوه بحق شعبهم ووطنهم (هل هو وطنهم حقا؟)، واعترافهم بفشلهم في إدارة البلاد، فقد أفصح آخرون عن مواقف مماثلة، إياد علاوي ونوري المالكي وعمار الحكيم وغيرهم فعلوا ذلك، والشيطان، كما يقول شكسبير، في سعيه إلى تحقيق مآربه، قد يلجأ إلى ترتيل الكتاب المقدس، لكن العامري كان الأكثر صراحة ووضوحا في إدانة نفسه، وإنْ لم يتعد أكثر من إطلاق كلامٍ في الهواء، كما لم يكن أي من هؤلاء شجاعا بما يكفي لوضع أقدامه خارج "العملية السياسية"، والدخول في مسار جديد، وإنما ظلوا متشبثين بها، وساعين إلى عدم التفريط بما غنموه من دون وجه حق، وذلك هو جوهر المشكلة.
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"