أيّ طقوس يمكن أن ترسم الخراب العراقي؟

أيّ طقوس يمكن أن ترسم الخراب العراقي؟

10 ابريل 2024
+ الخط -

ثمّة دلائل تَصفَعُنَا كلّ يوم لتؤكد لنا ما هو مُؤكّد، أنّ العراق لم يعد ذاك الذي نعرفه قبل أن يغزوه الأميركيون قبل 21 عاماً، فقد سُلبت سيادته، وانتُهِكَتْ أرضه، وامتُهِنَتْ كرامته، وصِيغَتْ أقداره على غير النحو الذي يُريدُه أهله، وأصبح القرار فيه لزعماء المليشيات التي أسّست الدولة العميقة، وقبضت على المال العام، وسعَتْ، وتسعى دائماً، إلى تحويل البلد، الذي عُمره أكثر من ستة آلاف سنة، إلى "ولاية" تابعة لدولة "ولاية الفقيه" من دون أن تجد من يردعها، ويردّها على أعقابها، ومعلومٌ أنّ مهمة الردع والردّ مهمة صعبة تحتاج أبطالاً ذوي حكمةٍ ودرايةٍ، وقدرةٍ على مواجهة التحدّيات، والبلاد التي تحتاج أبطالاً من هذا النوع دائماً لا تبدو محظوظةً.

وهكذا، ليس ثمّة في العراق من يجهل أنّ المسؤول الذي يقترن اسمُه بلافتة منصب رفيع في قمّة السلطة، رئيساً كان أو وزيراً أو عضواً في البرلمان، ليس هو صاحب الكلمة في تقرير السياسات العليا، وقد لا يستشار أو يُؤخذ برأيه في حالات كثيرة، إنما هناك من يتّخذ القرار نيابة عنه من خارج الحدود، من سدنة المرجع الإيراني الأعلى، ويفرضه من خلال "فائض القوّة" الذي توفّره له مكانته الدينية. وإذا كان بعضهم قد نسي أو تناسى خطط قائد "فيلق القدس" في الحرس الثوري، قاسم سليماني، في إدارة شؤون العراق نيابة عن سيّده، التي وصلت إلى حدّ تأدية مسؤولين رسميين عراقيين القسم أمامه على الالتزام والطاعة، قبل مباشرتهم مناصبهم، وكذلك توجيهات خلفه، إسماعيل قاآني، في زياراته المتتابعة إلى العراق واجتماعاته بمسؤولي البلاد، وتوجيهات سفير إيران في بغداد الذي يمارس دوراً أقرب إلى مهمّات "مندوبٍ سامٍ مفوضٍ" من حكومته. إذا كان هذا كله قد دخل في دائرة النسيان العفوي أو المتعمّد لدى بعضهم، فإنّ ثمّة كومة من وقائع طازجة تفضح الطريقة التي تُقَرَّرُ معها السياسات العليا في العراق، فها هو رئيس هيئة أركان الحشد الشعبي، عبد العزيز المحمداوي، يُؤكّد خلال مشاركته في مسيرة يوم القدس في طهران، أنّ مليشياته التي يفترض أنّها إحدى تشكيلات القوات المسلّحة العراقية وتتلقى الأوامر من قائدها العام، "تنتظر قرارات قائد الثورة (المرجع الإيراني علي خامنئي) لتقوم بواجبها في الردّ على القصف الإسرائيلي الذي استهدف قنصلية طهران في دمشق"، وأيضاً ما كشفه زعيم مليشيا حزب الله في العراق، أبو علي العسكري، أنّ مقاومته "أعدّت عدّتها لتجهيز الأشقاء من مجاهدي الأردن بما يسد حاجة 12 ألف مقاتل من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة، والقاذفات ضدّ الدروع، والصواريخ التكتيكيّة، وملايين الذخائر وأطنان المتفجرات... وجاهزون للشروع في التجهيز". وكذلك ما نظّر له قائد مليشياوي آخر عن "أهمية الأردن، وضرورة إيصال المقاومة العراقية السلاح إلى هناك لينهض مقاومو الأردن بواجباتهم على الأرض الأردنية... وإحياء جبهة الأردن التي ظلّت صامتة لتكون داعمة لفصائل المقاومة".

اللعبة بكل ما فيها من سيناريوهات وسرديّات تدار من قبل طهران

هذا يعني أنّ اللعب أصبح اليوم على المكشوف، ولم يعد هناك من يُمارس "التِقِيَّةَ" معنا ليقنعنا أنّ مليشيات الحشد الشعبي قوّة عراقية خالصة، وأنّها لا تَأتَمِرُ إلا بأوامر القائد العام للقوات المسلّحة، وأنّ العراق بلد كامل السيادة، وحكومته هي التي تقبض بيدها على قرار السلم والحرب، وغير هذه وتلك من الأكاذيب المفضوحة. المضحك المبكي، أنّ حكومة بغداد تتصرّف وكأن لا شيء هناك، وتُمارس الخداع كي تقنع نفسها أنّها فعلاً تمثّل دولةً ذاتَ سيادةٍ، وأنّ اللعبة تُدار منها مباشرة، فيما يدرك الجميع أنّ اللعبة بكل ما فيها من سيناريوهات وسرديّات تدار من قبل طهران، وبالذات من مكتب الوليّ الفقيه، والحصيلة لن تكون سوى مزيد من سيطرة "الدولة العميقة" على مقدّرات البلاد، ومزيد من التحكم بالسلطة والمال والقرار، ومزيد من خيبة المواطنين العاديين الباحثين عن الخُبز والأمن والأمان. وبالمختصر المُفيد، فإنّ "العراق الجديد" الذي صنعه لنا الأميركيون، وهيمن عليه الإيرانيون، أضحى، بعد أكثر من 20 عاماً، بلداً مستباحاً مسلوبَ السيادةِ، ومسلوبَ الإرادةِ أيضاً، ولا نجد في تقييمنا له أفضل من السؤال التاريخي الذي طرحته مرّة الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث: "بعد هذا البلاء العظيم، أي طقوس يُمكن أن ترسم كل هذا الخراب؟".

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"