ضرورات التحول في السياسة الخارجية التركية

ضرورات التحول في السياسة الخارجية التركية

01 يوليو 2018
+ الخط -
وجد حزب العدالة والتنمية، والرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وعلى ضوء نتائج الانتخابات الرئاسية والبرلمانية أخيرا، نفسيهما أمام سؤال محوري، يتعلق باحتمالات التغيير في السياسة الخارجية لتركيا، وهل ستكون هناك مراجعة لطريقة التعامل مع بعض الملفات الإقليمية، وأين سيكون ذلك وكيف؟
ومع أن حزب العدالة والتنمية (الحاكم) حدّد، إبان الحملات الانتخابية، مواقف كثيرة له في أسلوب التعامل مع قضايا إقليمية كثيرةٍ حساسة تعني تركيا، فإن حاجته إلى حزب الحركة القومية (اليميني)، حليفا عدديا تحت سقف البرلمان، حملت معها سؤالا عما إذا هذا التعاون سيتحول إلى تقارب أيديولوجي وسياسي واستراتيجي، في السنوات الخمس المقبلة، يعيد ترتيب أولويات النظرة التركية إلى هذه الملفات، بما يأخذ بالاعتبار الخلفية الفكرية والعقائدية لحزب الحركة القومية.
هل تبتعد تركيا حقا عن الاتحاد الأوروبي باتجاه التقارب على الأوروآسيوية؟ وهل تكون إسرائيل على قائمة أولويات أردوغان، أم ستكون هناك استمرارية لتجميد التوتر، وعدم تصعيده أكثر مما هو قائم اليوم؟ وهل تواصل تركيا المضي في طريق ابتعادها عن الولايات المتحدة الأميركية على حساب تزايد تقاربها وانفتاحها على روسيا، أم سيتوقف ذلك على مسار العلاقات التركية الأميركية؟ وهل سيؤدي شراء الصواريخ الروسية، إس – 400، إلى مشكلاتٍ أكثر خطورةً في العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة؟ كيف سينتهي توتر العلاقات التركية مع دول في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، بسبب تضارب السياسات الأمنية والدفاعية؟ وكيف سيكون شكل السياسة الخارجية التركية في المرحلة المقبلة؟ بقاء أردوغان في السلطة، بصلاحياتٍ جديدةٍ وقويةٍ بالضرورة، لا يعني أن السياسة الخارجية التركية ستستمر على ما هي عليه. هل سيكون أسلوب أنقرة بعد اليوم في العلاقات مع الخارج أكثر حدّة وصرامةً، أم أكثر انفتاحا وليونة؟
ليست المسألة مرتبطةً بالموقف التركي وحده طبعا، فهناك مثلا بيان وزراء الشؤون الأوروبية 
في دول الاتحاد الأوروبي، وفيه أن "تركيا تبتعد أكثر فأكثر عن الاتحاد، ومفاوضات انضمامها وصلت فعليا إلى نقطة الجمود، واحتمالات حدوث تغير قريب في الوضع ضئيلة". وهناك الرد التركي بأن موقف الاتحاد الأوروبي يشكل "نفاقا وعدم اتزان". مع بروز واقع آخر لا مفر منه، وهو أن النمسا، أهم خصوم تركيا ومعارضيها في موضوع العضوية، تستعد لتولي مهام رئاسة الدورة المقبلة للاتحاد، في النصف الثاني للعام الحالي.
لن تكون المسألة، في مسار العلاقات مع الولايات المتحدة، بمثل هذه البساطة، على الرغم من تفاهمات منبج أخيرا، فهناك أكثر من نقطة توتر عالقة بين أنقرة وواشنطن، يتقدّمها موضوع توصيف الجانب التركي حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) في سورية إرهابيا، فيما تتمسّك واشنطن به حليفا وشريكا لها في شمال سورية وشرقها، إلى جانب قضية فتح الله غولن، المتهم بتدبير المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا، والمدعوم أميركيا، وملف محاكمة القس الأميركي برونسون، في تركيا، بتهمة دعم الإرهاب، والتي يقابلها سجن المصرفي التركي هاقان آتيلا، ومحاكمته بتهمة خرق قرارات الحظر المالي الأميركي على إيران.
ولا يمكن الاستخفاف بتصعيد مجلس الشيوخ الأميركي على هذا النحو المكشوف ضد أنقرة في موضوع تجميد تسليم مقاتلات إف – 35، أو تجاهله أيضا، والرهان التركي دائما على "تفهم" الرئيس الأميركي وليونته، كما أنه سيكون لقرار تركيا مواصلة الانفتاح على روسيا وإيران والصين ثمنه أميركيا وأوروبيا، خصوصا إذا ما كان سيتم على حساب مصالح هذه القوى ونفوذها في علاقاتها التجارية والأمنية مع تركيا.
وستكون للتحالف المحتمل بين حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية متطلباته، وأعباؤه السياسية، ويستدعي تحليل ما يقوله الحزب القومي في مواقفه بشأن الملفات الخارجية الساخنة، وفي مقدمها الملفان القبرصي والأرمني، والملفان الآخران، الكردي في العراق وسورية واليوناني في إيجه، والنظرة الى توتر العلاقات التركية الأوروبية، خصوصا مع العواصم التي تحرّكها الأحزاب اليمينية القومية أيضا. وإذا ما تحول الرفد اليميني القومي لحكومة العدالة والتنمية إلى شراكة عملية، فسيكون له متطلباته وكلفته السياسية، وتعديل في مواقف الحزب الحاكم وقراراته، تأخذ بالاعتبار ما يريده شريكه الصغير. وبالتالي، لن يتجاهل حزب العدالة الذي يستمع إلى ما يقوله حليفه اليميني في قضايا داخلية سياسية وأمنية ما سيقوله هذا الحزب بشأن قرارات سياسة تركيا الخارجية. و"الحركة القومية"، حزبا وعقيدة وفكرا، لا تهمه كثيرا ثورات الربيع العربي، وديمقراطية دول الجوار، بقدر ما يهمه أمن تركيا واستقرارها وحمايتها من "الاستهداف والأخطار المحدقة". ولذلك، فإن التعرّف إلى فريق العمل الذي سيشرف على ملف السياسة الخارجية التركية، ومسألة وجود قياديين سياسيين من الحركة القومية، هو ما سيساعد على اكتشاف مسار السياسة التركية الجديدة، وعلاقات أنقرة بدول عديدة، ونظرتها إلى الملفات المطروحة، والتحولات في موقع تركيا الإقليمي ودورها.
قد تكون روسيا وإيران أكثر فرحا، وستكون أميركا وعواصم أوروبية كثيرة أكثر قلقا، لكن ما سيحسم المسألة مدى التقاء طروحات الحزبين أو تضاربهما في إدارة شؤون الملفات الخارجية. هل سيقف الحزب القومي إلى جانب أردوغان في سياسات التصلب والتشدّد مع الغرب، والانفتاح أكثر على إيران وروسيا، أم سيقول العكس؟ أو سيواجه شريكه الكبير بمطلب أن يكون العنوان العريض للمرحلة المقبلة في سياسة تركيا الخارجية البحث عن سبل فتح صفحة جديدة بيضاء، تنهي التوتر مع دولٍ عديدةٍ في الجوار العربي، والبحث عن حوار متوازن جديد مع إسرائيل، يعطي أنقرة مرة أخرى فرصة التوسط، ولعب دور جسر التواصل والاتصال الإقليمي باعتدال وتوازن ومرونة منفتحة. وعندها قد يتحوّل الشريك الجديد إلى وسيلة وفرصة للحزب الحاكم، للتخلص من أعباء كثير من سياساته ومواقفه الإقليمية. وقد تلقى الرئيس التركي عشرات الاتصالات وبرقيات التهنئة بفوزه، هو وحزبه، في الانتخابات من قيادات وعواصم توترت علاقاتها بأنقرة أخيرا، فهل تكفي هذه الخطوات لدفع القيادة السياسية التركية نحو مراجعة مواقفها وعلاقاتها بهذه العواصم؟ من أين سيبدأ أردوغان زياراته الخارجية، بعد توليه مهام الرئاسة، غير زياراته المعهودة لقبرص الشمالية وباكو؟ وكيف سيواصل هذا الحراك؟
تلك كلها في مقدمة الأسئلة التي تساعد على تحديد الإجابات بشأن معالم السياسة الخارجية التركية للمرحلة المقبلة. وذلك بعد أن نجحت تركيا في تسجيل مواقف وخطوات مؤثرة في القضايا الإقليمية، مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002، لكن السياسة الخارجية التركية حملت معها تشابكاتٍ كثيرةً في ملفات استراتيجية حساسة، بسبب العودة السريعة والتصاعدية، المربكة والمحيرة والمقلقة، خصوصا لخصوم تركيا ومنافسيها الإقليميين. كيف ستتصرف أنقرة في السنوات الخمس المقبلة، وأي اتجاه ومسار ستختار، وهي تعرف جيدا أن ما تقرّره لن يعنيها وحدها، بل ستكون له ارتداداته الإيجابية والسلبية على مصالح كثيرين وحساباتهم أيضا؟
هل يخدم أنقرة أن تكون دائما في مقدمة نقاشات شؤون مئات آلاف اللاجئين والنازحين 
والبمعدين العرب الوافدين إليها، بعدما ضاقت بهم سبل العيش؟ وهل من مصلحة الأتراك أن تتحول مواقع التواصل الاجتماعي، في معظم الدول العربية، إلى ساحة معارك بين أنصار أردوغان وخصومه، وأن يرصد هؤلاء وأولئك تطورات المشهد الانتخابي، وسط كل هذا الحماس، بالوقوف إلى جانب طرف تركي على حساب طرفٍ آخر، لأن هناك من يهدّدهم بإعادتهم إلى بلدانهم؟ ألن يسمحوا لبعض الأتراك بأن يطالبوا بخروج بلادهم من سياسة التورّط في القضايا الخارجية، لاسيما في المستنقع السوري، أو كما بات يسميه بعضهم فيتنام المحتملة لأنقرة؟ وأن يدعموا مثلا مطلب إنهاء القطيعة التركية المصرية التي تكاد تتحول إلى اصطفاف ومواجهة إقليمية مفتوحة؟ وأن يطالبوا ببداية عهدٍ جديدٍ من العلاقات السياسية والأمنية والمائية مع الجار العراقي؟ وأن يردّدوا أن إسرائيل ولوبياتها لا تهدأ؟
نقل حزب العدالة والتنمية تركيا خلال 16 عاماً من الحكم من دولةٍ منكفئةٍ على نفسها، ومعزولةٍ عن مجالها الحيوي، إلى دولةٍ إقليميةٍ قويةٍ ومؤثرةٍ في محيطها، لكن هناك أزمات ومشكلات كثيرة تعاني تركيا منها في مطلب الدولة الإقليمية المركزية على حساب توتر العلاقات مع دول كثيرة في المنطقة. إلى ذلك، عدم ابتعاد تركيا عن المسار الديمقراطي الذي بدأته مع وصول "العدالة والتنمية" إلى الحكم، وتنفيذ الإصلاحات الهيكلية في الدستور والاقتصاد والقضاء والبيروقراطية والخروج السريع من الحالة الاستثنائية التي تعيشها البلاد منذ سنتين، هو مفتاح تسوية أزماتٍ عديدةٍ في العلاقات مع تركيا، كما تردّد عواصم غربية كثيرة. لذلك، ستكون ملفاتٌ كثيرةٌ بالسياسة الخارجية على جدول أعمال الرئيس أردوغان في المرحلة الجديدة، ولم يعد ينفع أنقرة كثيرا أن تماطل، كما فعلت مراتٍ، عبر وضع ملفات عدة أزمات إقليمية ودولية في ثلاجات الخارجية، ومحاولة نسيانها هناك. وكان "تصفير المشكلات" نقطة انطلاق جيدة في سياسات تركيا الإقليمية، تبعها مشروع "الرد الاستباقي" والحرب على الإرهاب العابر للحدود في سورية والعراق. ما الذي سيقرّره حزب العدالة والتنمية في المرحلة المقبلة؟ هل يكون "مد اليد الاستباقي" خيارا موفقا هذه المرّة؟
4A6988D0-57AB-4CAB-9A76-07167D860E54
سمير صالحة

كاتب وباحث تركي، أستاذ جامعي في لقانون الدولي العام والعلاقات الدولية، دكتوراة في العلوم السياسية من جامعة باريس، له عدة مؤلفات.