العرب وكأس العالم

العرب وكأس العالم

17 يونيو 2018

من مباراة مصر والأورغواي في مونديال روسيا (15/6/2018/فرانس برس)

+ الخط -
كان كأس العالم في العقود الأخيرة، ومنذ شارك المنتخب التونسي فيه سنة 1978 في الأرجنتين تحديدا، إذا ما استثنينا مشاركة مصر المبكرة سنة 1934، فرصةً نادرةً لتجميع العرب في قمةٍ أمميةٍ تنعقد كل أربع سنوات، فقد كان الحضور العربي، بحكم التعديلات التي أجريت على نظام الترشح لكأس العالم من جهة أولى، والترفيع في عدد الفرق المشاركة من جهة ثانية، قارّا، إذ شاركوا تقريبا في كل الدورات السابقة، لعل أهمها بحسب عدد المشاركات كل من تونس والجزائر والمغرب ومصر والسعودية، من دون نسيان حضور الإمارات والعراق والكويت... كانت مباريات تلك المنتخبات حين تجري، وأيا كان منافسها فرصة نادرة، لإبداء مشاعر غير مسبوقة من التضامن العربي الذي يصل أحيانا إلى التعصب والشوفينية، تبديه الجماهير الرياضية التي تتوسع لتضم، في هذه الحالة، أناسا بسطاء، لا علاقة لهم بالرياضة، وإنما ينتسبون عرضيا إلى هذه الجماهير المهووسة بكرة القدم بدافع نصرة المنتخبات العربية، وعديدون منهم لا يعرفون أسماء اللاعبين، ولا حتى الأناشيد الوطنية أو الإعلام. ولكن لمجرد أنها منتخبات عربية يبدون حماسة غربية، وتضامنا مطلقا معها.
أحيانا في جل بلدان المغرب العربي، يسأل الآباء أبناءهم في تلك المباريات عن هوية الفريقين المتقابلين، فإذا كان فريقا عربيا معينا تسمّروا أمام التلفاز، وابتهلوا ودعوا له بالانتصار على هذا الخصم الذي لا يعرفونه. إنه خصم لدود، لأن المصادفات وضعته في لعبةٍ ماكرةٍ غريما للعرب يستحق أن يهزم. وكم كانت مشاعر الألم حادة ومخيبة، حين ينهزم فريق عربي، وتزداد الحماسة كلما تتالت انسحابات المنتخبات العربية، ليتمسكوا بآخر فريق، ممثلا شعبيا للعرب قاطبة. عشنا مثل هذا الالتفاف الواسع حول منتخبات تونس والجزائر ومصر والمغرب والسعودية وغيرها. كأنها جيوش تقاتل نيابةً عن العرب جميعا، نظل مشدودوين جميعا إلى آخر الجبهات، علها تمنحنا انتصارا ساحقا، فإذا ما انسحب العرب انتصرنا إلى أوطانٍ تشبهنا، وهكذا دواليك.. إلخ.
يخوض الجمهور مقابلاتٍ أشدّ ضراوة من التي يخوضها اللاعبون على الميدان، فلدى هؤلاء أحيانا مشاعر من الاحتراف واللامبالاة و"التعود"، ما يخفض عليهم قسوة الهزيمة، فيما 
الجماهير التي تترك وحيدة لعواطفها الخام، في الكرة، على السليقة عرب. من منا، لا يتذكّر المقابلات الشرسة التي واجه فيها التونسيون الألمان والمغاربة البرتغال والسعوديون فرنسا والجزائريون كوريا.. إلخ. كانت معارك ضارية. قد لا توجد عداوات مسبقة بين هذه الشعوب، ولا مجرد نزاعات، لكنها الكرة فحسب، فهي كفيلة بأن تشعل صراعاتٍ وتخلق استقطاباتٍ لا مفر منها. تسعفنا الكرة، نحن العرب، بفرص نادرة للانتصار، وربما الثأر. لذلك كان كل العرب تقريبا يصطفون وراء أي فريق عربي. تمنحنا تلك المباريات "قوميةً كرويةً" لا نظير لها، فنتابع المباريات أكثر من متابعتنا حروبا تلتهم أوطاننا. تابعت الجماهير العربية مباراة السعودية مع روسيا أكثر من متابعة معركة الحديدة الجارية بضراوة في اليمن. يصبح الناس جنودا في جيشٍ لا حد له، من دون أوامر وتراتبية، يحشدون طوعا ويخوضون معارك بكل "قومية". جيوش الكرة ديموقراطية، تعطي الفرصة للناس، من دون استثناء، والقدرة على التعبير عن الفرح والألم، الصراخ، وأدعيةً كثيرة لا يستجاب لها عادة؟
لكن على خلاف كل الدورات السابقة، يدخل العرب، هذه المرة، وهم مشرذمون منقسمون. وربما لأول مرة بهذه الحدة، فقد نشأت صراعاتٌ حادة خلال السنوات الأربع الأخيرة، وهي الفترة الفاصلة ما بين الدورتين الأخيرتين، على خلفية قضايا قديمة، وأخرى طارئة على غرار ملف إيران، النزاع الخليجي، الربيع العربي.. لم تعد القضايا الكبرى تجمعنا، بل لعلها عادت سببا في مزيدٍ من التشتت والتفرقة. كل شيء غدا، وبشكل غير مسبوق في السنوات الأخيرة، مثيرا للنزاعات، فوجهات النظر أضحت، أكثر من أي وقت مضى، مختلفةً، بل متباينة ومتناقضة: الصراع العربي الإسرائيلي، المقاومة، التطبيع، الثورات، إيران. لا شيء غدا ضامنا للإجماع العربي، حتى في المستوى الشعبي أحيانا. كلما واجه العرب حدثا جللا، مثل ما ذكرنا، تفرقوا شيعا، وسادت حالة من التشتت والفرقة. يتساءل بعضهم على إثر صدمة التصويت: ما جدوى جامعة الدول العربية؟
كان تصويت بعض الدول العربية ضد المغرب في ملف ترشحها لاحتضان كأس العالم سنة 2026، ومساندتها ملف الثلاثي، الولايات المتحدة الأميركية وكندا والمكسيك، ضربة قاصمة لما تبقى من تضامن عربي كروي. أحدث موقف تلك الدول شرخا عميقا، وقسم الناس إلى معسكرين، السعودية والمغرب. وربما شعر الناس في المغرب العربي بمرارة مضاعفة، فقد فاضت مواقع التوصل الاجتماعي باستنتاج مرير: لقد تصرّف هؤلاء مع المغرب على هذا النحو، لأنهم لا يشعرون أن أهل المغرب العربي عرب مثلهم.
لم ينتبه عامة الناس إلى تصويت بعض العرب ضد المرشح القطري لإدارة منظمة الأمم
 المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو)، لكنهم انتبهوا إلى عدم تصويت بعض الدول العربية لصالح المغرب، بل صدموا. قد لا يعتقدون أن لذلك المنصب مكانةً تستحق كل تلك المشاعر، لكن حين تعلق الأمر بالكرة، هذه اللعبة الملتبسة الماكرة، فقد عدوا ذلك الموقف خيانة قومية. لا فائدة، حتى لو كان الأمر على سبيل التوصيف، في سرد أطنان الشتائم التي حلت بتلك الدول. وقد وصل بعضهم إلى التشكيك في عروبتها، ويكفي أن نستحضر ما كتبه الصحفي التونسي، محمد كريشان، حين تساءل: هل أنتم عرب؟
وضعت الأقدار المنتخب السعودي فريسة سهلة أمام منتخب البلد المنظم لكأس العالم، روسيا، فكانت هزيمته ثقيلة. ثمّة من أبدى شماتة، وثمّة من عاش مفارقة، هو الذي انتصر للروس، فيما يعلم أنهم أيضا من سهّلوا إلقاء البراميل المتفجرة على العرب أيضا. لا أحد يصدّق أن خسارة السعودية كانت عقابا لها على ذلك الموقف. ولكن المصادفات والأحاسيس تقدّم أحيانا أوهاما أصدق وألذ من الحقيقة. الجماهير العربية التي ساندت المنتخب الروسي "نكاية" في الأشقاء السعوديين تقع تحت وطأة ردود الفعل الشامتة، وهي بذلك تعيد إنتاج الموقف الخاطئ نفسه الذي تتخذه تلك الأنظمة: انتصار لخصمٍ لا يقل بؤسا وشقاءً عمن صوّت ضد المغرب. كمن يستجير بالرمضاء من النار؟
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.