وشم عربي في قرطاجنة

وشم عربي في قرطاجنة

07 مايو 2018

(راشد دياب)

+ الخط -
شاهدت فيلما أرجنتينياً قبل أيام، تدور أحداثه في أكثر من مدينة: بوينس أيرس، قرطاجنة، فضلا عن مدريد. في الفيلم عاشقان. يفترقان ويلتقيان، مصادفة، في مطارات هذه المدن وأسواقها. في قرطاجنة، يهطل المطر من غير موعد. وكما يحلو للسينما الرومانسية أن تفعل: يتعانق العاشقان تحت تلك الزخات المباركة. يهربان إلى سوقٍ قريب من سور المدينة التاريخي. ولكن قبل ذلك يرى العاشق وشما جديداً على جسد حبيبته. لم يستطع قراءته. يسألها عنه فتقول له إنه مكتوب بالعربية! ماذا يعني؟ تجيب: الكلام المحكي يزول والمكتوب يبقى.. أفهم من الحوار المترجم أنه مثل أو قول عربي مأثور. لا أتذكّر أني قرأت، أو سمعت، شيئاً كهذا من قبل. هناك خطأ في الترجمة لا ريب. أو بحسب الفيلم الشهير: مفقود في الترجمة. لكن الوشم جميل. إنه بخط قريبٍ من الديواني المتلاعب. مكانه مدروس. إنه في أعالي الفخذ. الزرقة الداكنة المتلاعبة بخط الديواني، أو ما هو من فصيلته، تبرز الأبيض، أو البرونزي. لكن العربية لا تنتهي هنا. يدخل العاشقان متجراً في السوق المسقوفة. سوق سياحية. يسمعان كلاماً يأتي من عمق الدكان: تبدو عليكما هالة الحب، والارتباط الأبدي. لا يفهمان. يترجم ابن السيدة إلى الإسبانية. يسخران من الشعوذة الشرقية التي لا بد أنها موجهة للسياح المغفلين.
هذه قرطاجنة. الدلالات تذهب بعيدا. الاسم يحوم فوق البحر الأبيض المتوسط. العربية هنا بعيدة كل البعد عن موطنها. لكنها ليست غريبةً تماما. ففي الكلام الإسباني، المستعمر، الكثير منها. هناك أيضا ناطقون أصليون بها. ذكّرني الفيلم بمونيكا، الشاعرة  الكولومبية التي لا تشبه، بأي حال، العاشقة صاحبة الوشم الديواني.
كانت مونيكا قادمةً من بارانيكا. هذا الاسم يحيل عندي، فقط، إلى ماركيز. لهذا الاسم وقع سحري عند من عرف عالم الكاتب الكولومبي الشهير صاحب "نوبل" ورفاقه الذين تراوح توزعهم الطبقي بين الإدقاع الاجتماعي والمالي ورفاهية الطبقة الوسطى. بين القادمين من قرى ترزح تحت مشيئة القيظ والبعوض والعزلة وأولئك الذين يتصلون بآخر ما تنتجه الحواضر الأوروبية الكبرى. لم يكن صعباً على مونيكا أن تعرف من أكون. يبدو أنها رأت مثل سحنتي كثيراً. ليس لأن كولومبيا تضم خليطاً عجيباً من السحن، ولكن لأنها تعرف العرب. عرب "بارانيكا" تحديداً. فهمت منها أنها تقيم بين العرب هناك. ولها صداقاتٌ شخصيةٌ وعائلية معهم. قالت: العرب.. أو على نحو أكثر دقةً: اللبنانيين، ولم تقل "لا تركو"، فتلك تسمية للعرب قديمة، شاعت بين الكولومبيين مع بدايات الهجرة العربية، ولم تعد تستخدم، على ما يبدو، الآن. للدلالة على معرفتها بالمتحدرين من أصولٍ عربية، لبنانية خصوصاً. عددت لي بعض أسماء العائلات التي تعرفها مثل عائلتي "زاخم" و"عضوم". ويبدو أن للعائلة الأخيرة باعا طويلا في الهجرة، فقد التقيت في مهرجان شعري في إيطاليا شاعراً من البيرو يتحدر من هذه العائلة. كان في حدود السبعين من العمر. شغل مناصب دبلوماسية في سفارات بلاده في غير عاصمة، لكنه لا يعرف العربية. هو الذي أخبرني أن اسم عائلته الأصلي "عضوم" (نطقها صحيحة) وليس "أيدوم".
عندما علمت مونيكا أنني مهتم بماركيز، دعتني إلى الذهاب الى بارانيكا. قالت: نقيم لك أمسية شعرية هناك وتتعرّف، عن قرب، إلى المدينة التي شكلت انطلاقة ماركيز الأولى.. لكن تلك الفرصة لم تتحقق، للأسف، بسبب اضطراري للعودة. مع ذلك أطللت، بفضل الشاعرة البارانيكية، على جانب من حياة تلك المدينة التي تبدو لنا، نحن قرّاء ماركيز، سحرية.
دهشت مونيكا، مثلما دهش بعض المثقفين الكولومبيين، من معرفتنا "الدقيقة" بماركيز ومجموعة بارانيكا. ذكّرني ذلك بالدهشة التي كان يبديها شعراء ومثقفون أوروبيون من معرفتنا بمسارات الحداثة الأدبية الغربية. كان بعضهم يظن أننا لا نولي حداثتهم اهتماماً كبيراً. لم يكن في الأمر استنكار. إنهم يصدرون، على الأرجح، من فكرة تقول بتمسكنا بتقاليدنا الأدبية، وتعكس هذه الفكرة، بدورها، تصورهم للحداثة، بوصفها منتجاً تاريخياً غربياً، لا يصلح "استهلاكه" خارج موطنها. صحيح أن الحداثة "منتج" غربي. لكن الصحيح، أيضاً، أن "المنتج الغربي" صار، لأسبابٍ ليس هذا مقامها، "منتجاً كونياً" شئنا أم أبينا. يمكننا، لو أردنا، أن نعيِّن سهمنا في هذه الحداثة، مثلما في وسع الصينيين واليابانيين والهنود والأفارقة أن يفعلوا، لكن ذلك بحث في التأصيل لا يعنيني.
E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن