الترجمة باعتبارها استشراقاً

الترجمة باعتبارها استشراقاً

05 مارس 2018

(لؤي كيالي)

+ الخط -
سألتني، مرةً، جهةٌ تعمل على ترجمة رواياتٍ عربية حديثة، إلى الإنكليزية، أن أرشّح لها رواية. لم أكن وحدي الذي سئل هذا السؤال. كان هناك آخرون، من غير بلد عربي. اقترحتُ رواية الكاتب الأردني الكبير الراحل غالب هلسا "سلطانة". وهي، تقريباً، من أواخر أعماله، وتقريباً، عمله الروائي الأردني الوحيد، أقصد العمل الذي يستمد مادته من حياة أردنية، لأن غالب هلسا، كما تعرفون، صرف قسطاً كبيراً من حياته، القصيرة نسبياً، في مصر. وعندما يتحدث المصريون عن النقلة التي عرفتها الرواية المصرية، ما بعد نجيب محفوظ، تكون جماعة "غاليري 68" في قلب هذه النقلة. ضمت هذه الجماعة، التي تمحورت حول مجلة حملت الاسم نفسه، أسماء عديدة منها: إدوار الخراط، إبراهيم أصلان، يحيى الطاهر عبد الله، محمد البساطي، ابراهيم منصور، جميل عطية إبراهيم.. وغالب هلسا.
رفضت تلك الجهة رواية "سلطانة" لأن كاتبها راحل. لم أفهم. ألا نترجم إلى العربية لراحلين كثر؟ هل نتوقف عن ترجمة جويس، فوكنر، دوستويفسكي، يوكيو ميشيما، مثلاً، لأنهم راحلون؟
قد يكون السبب تسويقياً بحتاً. استثمار حضور الكاتب، بشحمه ولحمه، عندما يصدر الكتاب، في حفلات التوقيع والندوات. لكن هذه الجهات التي ترغب في الترجمة، سواء إلى الإنكليزية أو الفرنسية، لا تطلب من الكاتب الياباني، أو اللاتيني، أن يكون حياً. فعمله ينوب عنه ويحضر محله.
هذه مجرد جملة افتتاحية، طويلة، للحديث، السريع، عن واقع ترجمة الكتابات العربية إلى اللغات الأوروبية. ليس المطلوب أن يكون حياً فقط. هذا شرط ممكن توفيره، فلدينا العديد من الكتاب والشعراء الأحياء، بل ينبغي أن تكون هناك "مادة اجتماعية" في كتابته. قلت "مادة اجتماعية"، ولم أقل مستوى فنياً يقدم اقتراحاً أسلوبياً أو جمالياً، فهذا ليس مطلوباً منا. هذا ليس شغلنا. إنه شغلهم هم. نحن علينا أن نوارب أبوابنا على دواخل البيوت. داخل مجتمعاتنا المغلقة. داخل نفوسنا التي تزدحم بالتناقضات: تقول شيئاً وتفعل شيئاً آخر.
لم يعد هناك اليوم استشراق. مات هذا "العلم" بالسكتة القلبية منذ أمد. لكن "فكر" الاستشراق لم يمت. والحاجة إلى محتواه "الاجتماعي والنفسي" لم تنته. فإذا كان الاستشراق قد تلطخت سمعته بصور الحريم والحشيش وقولبة البشر وتصنيفهم في خانات، وقضى نحبه، بسبب سوء سمعته، فإن باباً آخر ينبغي أن يظل مفتوحاً على المجتمعات التي يتربّى في ظلها "داعش"، ومن هم على شاكلته، وتطلع منها اللحى والوجوه المُربدَّة والأيدي التي تقطع الأعناق بالسواطير. هذا الباب تتولى حراسته، والإبقاء على مواربته، الترجمات الأدبية.
كيف يمكن تفسير أن أكثر الأعمال الأدبية العربية الحديثة المترجمة إلى اللغات الأوروبية رواجاً (ومعظمها روايات) تطلع من شقوق هذا الباب؟ من هذا التلصص على الآخر/ الغريب؟
لا تتناول "الغارديان"، "الإندبندنت"، صفحات "نيويورك تايمز" للكتب، رواية يابانية، أو لاتينية، من زاوية "مادتها الاجتماعية"، بل من زاوية مستواها الفني، من الجديد الذي تقدمه على هذا الصعيد. اذكروا لي روايةً عربيةً واحدةً تناولتها هذه الصحف، وغيرها، باعتبارها تحفةً فنية. لا توجد. ولهذا أكثر من سبب غير "التلصص"، غير الزي الجديد للاستشراق. إنه الرواية العربية نفسها. نضحك على أنفسنا عندما نفكِّر أن روايتنا قادرةٌ على تقديم اقتراحات فنية وأسلوبية، كما هو الحال في ثقافات أخرى: يابانية، لاتينية، أفريقية. قد يكون في وسع شعرنا فعل ذلك. لكن ليس روايتنا، ليس فننا التشكيلي، ليست أفلامنا، وبالتأكيد ليس "فكرنا". علينا أن نعرف حجمنا على هذا الصعيد، وألا نهوّل في أمر مدونتنا الأدبية التي لا تزال تصارع أشكالاً عديدة من الرقابات والإعاقات.
ومع ذلك، هناك جهود كبيرة لبعض المترجمين المهتمين، فعلاً، بالأدب العربي، ويعملون، ما يقدرون عليه، لاختراق أسوار روما المحصنة. وهذه تحية لهم. وهناك بعض المنصات الإلكترونية الأجنبية التي كرَّست نفسها للأدب العربي. وهذه تحية لها. ولكن إياكم أن تظنوا أننا قد بلغنا سنَّ الرشد بعد. وهذا ليس بسبب التنميط الغربي لنا. كلا. ليس هذا هو السبب الوحيد. بل لأن كتابتنا لم تتحرّر من الرقابات، أولاً، لكي تغامر على طريق الفن الروائي. وليس الكلام المجاني في "المحرّمات" أو "العيوب" تحرّراً. إنه تكريس ذاتي للقولبة. وحراسة مشددة على شقوق البيوت.
لكن على هذه "المادة الاجتماعية" أن تكون "مثيرة". يفضل ذلك.
E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن