طرشان فريد الأطرش

طرشان فريد الأطرش

27 مايو 2018
+ الخط -
هل كنا "طرشانا" يوم صدّقنا المرحوم فريد الأطرش، ذات أغنية حاول فيها أن يرمّم أحزان نكسة حزيران 1967، حين أنشد: "إن للباطل جولة"، فقد افتتح بأغنيته تلك حبل الكذب العربي الذي لم يكن يومًا "قصيرًا"، كما ادّعى أجدادنا، بدليل أنه ما يزال مستمرًا.
منذ قصيدة بيرم التونسي "يوم الفداء" التي غناها الأطرش، ونحن نسير كالبهاليل على حبلٍ طويلٍ لا نتبين آخره، نسقط بين كذبةٍ وأخرى، ثم ننهض لنعاود الوهم، من دون أن نصدّق حتى اليوم أن "للباطل آلاف الجولات"، وليس جولة واحدة فقط.
ولئن كان طرشان فريد الأطرش راهنوا على تحرير فلسطين، حين يكسب الحق "جولاته" المقبلة، فإن "طرشانا" آخرين راهنوا على اندحار الباطل بمعارك أخرى، بعيدًا عن فلسطين، على غرار معارك الربيع العربي، فصدّقناهم كما فعلنا مع "الأطرش الكبير"، وصار حبل الكذب بطول الجغرافيا العربية كلها.
لا أدري إلى متى سنظلّ أسرى نظريات وحتميات عربية، أثبتت الأيام والدماء فشلها، وأتساءل: كم باطلًا قارع العربُ منذ "الباطل الصهيوني" الذي كسب جولاته كلها معهم منذ العام 1948؟
ربما كان الأطرش صادقًا حين اعتقد أن الباطل واحد فقط، في زمنه. ومن حسن طالعه أنه عاش حقبة لم يكن يعرف فيها العرب غير عدو واحد اغتصب فلسطينهم، غير أن أيامه لم تمتد إلى زمن آخر، يتناسل فيه "الباطل" ألف مرة في اليوم الواحد، وتصبح فيها الأوطان مغتصبةً، لا من الغزاة، بل من الطغاة وأبناء الجلدة الواحدة. ولهؤلاء جولاتهم التي ينتصرون فيها على كل الحقوق التي ظنناها مسلمات.
كنا اعتقدنا، مثلًا، أن جولة الباطل في مصر انتهت مع حقبة حسني مبارك، وصدّقنا أن جولات الحق انتصرت مع نجاح ثورة الربيع التي فتحت صناديق الاقتراع، فكان حبل الصدق قصيرًا للغاية، لا يكاد يكفي قدم حقّ واحدة، مع عودة القمع والكبت إلى بلاد النيل على يد عبد الفتاح السيسي الذي اغتصب السلطة، فيما يترنح الشعب المصري على حبل صدق قصير، لم يتجاوز ميدان التحرير، قبل أن يختطفها جنرالات الجيش، والأرجح أن الشعب ما يزال يردد مع أطرشه: إن للباطل جولة.
وعلى الغرار ذاته، اعتقدنا أن جولة الحق الليبي طوّحت الطاغية إلى الأبد، لنكتشف، لاحقًا، أن ثمة طغاة آخرين ينتظرون في جحور الغدر القاطنة في القاهرة وأبوظبي والرياض، لينقضوا بجولات باطلهم على جولة الحق اليتيمة، ويعاودوا دورة الاستبداد من جديد، وهو ما حدث في اليمن أيضًا، فيما تردّد الشعوب المكلومة مع مطربيها: إن للباطل جولة.
وفي المحصلة، يرتدي الباطل لبوس الصدق، ليكذب ثم يكذب، حتى يسجل عند الشعب العربي "صادقًا"، فيما يُحشر الحق في لبوس الكذب، ليدّعي الصدق ثم الصدق، حتى يسجل عند الشعب "كذَّابا".. تلك هي مفارقة الزمن العربي الجديد الذي أصبح فيه المتصهين صادقًا، والطاغية صادقًا، ومبيد الشعب بالبراميل والغازات السامة "صادقًا"، فيما يغدو الطفل المختنق بالغاز "كاذبًا" حتى بمصرعه، ويحتاج إلى لجان تحقيقٍ دوليةٍ لتصديق رواية اختناقه.. وبهذا يصبح الجلاد صادقًا والضحية كاذبة.
والحال أن زمن الاستدراك قد فات، ولم يعد في وسعنا أن نراجع الآن مطربنا الراحل فريد الأطرش، كي نقنعه بتصويب خطأ أغنيته الشهيرة، فيستبدلها بعبارة "إن للحق جولة وللباطل آلاف الجولات"، بدليل أن الحق الفلسطيني ما يزال مهزومًا، والحق العربي بالحرية ما يزال مهزومًا، والحق بالوحدة ما يزال مهزومًا. وفي المقابل، ربما علينا أن نقول إن للحق جولة واحدة، لم يئن أوانها بعد. ولغاية ذلك الحين، سيكون "حبل" الكذب طويلًا وعريضًا، أما حبل الصدق فيظل قصيرًا، بل وأقصر بكثير مما ادّعى أساتذتنا وأجدادنا ومطربونا.
أما الطرشان الذين لم تقيّض لهم طبلات آذانهم أن يسمعوا أغنية فريد الأطرش إياها، فسيظلون موضع حسدنا؛ لأنهم نجوا من زمن الكذب العربي، وسنهتف لهم: هنيئًا للطرشان.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.