هذا النظر إلى الماضي

هذا النظر إلى الماضي

03 مايو 2018

شكيب أرسلان: لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدّم غيرهم؟

+ الخط -
تستدعي أي معالجة لقضايا الوضع العربي الراهن، ومهما كانت اتجاهاته النظرية، إعادة تأصيله في التراث العربي، لإثبات أنه ليس غريبا عن هذا التراث، ويملك جذورا هناك في التاريخ العربي الذي يشكل الإسلام فيه الأساس الذي لا يمكن تجاوزه، وعلى كل القضايا أن تجد تبريرها في إطار التجربة الإسلامية السلفية. والطروحات القليلة التي لا تبحث عن هذا التأصيل تواجه النقد التقليدي بغربة هذه الطروحات عن الواقع العربي، والتي لا يمكن لها أن تكون فاعلة، إلا إذا تمت تبيئتها، وإعادة إنتاجها في إطار بيئة عربية، يعادل البحث عن أصول تراثية لهذا الطرح. 

يفرض ثقل التاريخ الذي يعاني منه الواقع العربي هذا التأصيل الذي يكون، في أغلب الأحيان، إن لم نقل في كلها تأصيلا وهميا، لكنه محكوم به، فالمرجعية المطلقة والحاسمة للعربي هي تجربة الإسلام بصفتها ذروة التجربة الأكثر إشراقاً في التاريخ العربي. ويبدو التمسك بهذه التجربة بوصفها مرجعية مطلقة يعكس مدى رفض العربي واقع الضعف الذي يعاني منه، ولعدم إمكانية تجاوزه في المستقبل، تصبح اللحظة الأكثر إشراقا في التاريخ العربي، هي اللحظة التي يجب التمسّك بها، والتدليل من خلالها على قدرة العرب على إنجاز تاريخ مجيد، فالذي جعلهم في الماضي يصنعون هذا المجد يجعلهم هو ذاته يصنعون المجد مجددا. بذلك يتم الوقوع في أسر مرجعية الماضي، ويصبح المطلوب ليس الإجابة على الحاضر والمستقبل، بقدر ما يصبح المطلوب الإجابة على أسئلة الماضي.
ومنذ ما سمي عصر النهضة العربي، ولد السؤال الإشكالي الذي حطم ويحطم المفكرون 
والباحثون العرب رؤوسهم على عتباته، والذي صاغه شكيب أرسلان بـ"لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدّم غيرهم؟"، والسؤال المصاغ بهذه الطريقة يحمل الافتراض الذي يجعل للتاريخ العربي ثقلاً لا يمكن تجاوزه، فالمسلمون كانوا قد تقدموا على غيرهم، وكان غيرهم متأخرا عنهم. وعند طرح السؤال بهذه الطريقة، يصبح المطلوب الإجابة، أو بالأصح، البحث في الماضي عن سرّ التقدم الذي يفتقده المسلمون ويملكه غيرهم، الوضع المقلوب الذي أفرزه تاريخ العالم شاذ، وغير طبيعي، والطبيعي أن تعود الصورة إلى ما كانت عليه قبل أربعة عشر قرنا. وكيف يكون ذلك؟ يكون بالبحث عن الأسباب التي تقدّم بها العرب في ذلك الوقت، ويصبح المطلوب صياغة المستقبل على صورة الماضي.
العلاقة بين الماضي والحاضر والمستقبل غير متوازنة وإشكالية، وهي تميل إلى الماضي بطريقة مرضية، تجعل منه الحاكم النظري للسلوك، ولأن الماضي غير قادر على الإجابة على أسئلة الحاضر والمستقبل، ويبقى أسير معطياته، فإن اعتماده مرجعا مطلقا يعمل على إيجاد حالةٍ من الانفصام بين السلوك العملي وتبريره النظري، بحيث لا تتطابق السلوكيات مع هذا الإطار النظري، وبذلك يصبح السلوك متقدماً على الإطار النظري، فالتعامل مع الحياة المدنية يحتاج الانخراط في معطياتها، وهذا الانخراط الذي لا يمكن للماضي أن يفسره يصبح حياة محجوبةَ عن الإطار النظري التبريري المتناقض مع السلوك. ولا يجد العربي اليوم أية مشكلة في هذا التناقض بين السلوك ومجموعة القيم المُدعى بها والمستمدة من قرون سابقة. هذا الشرخ بين الادعاء بالتمسك بالسلوك الأمثل للمجتمع الذي ظهر في صدر الإسلام، والسلوك العملي المنغمس تماماً برذيلة الواقع القائم تجد تفسيرها في الثقل الذي يقبع به التاريخ الإسلامي داخل تكوين الشخصية العربية.
عدم تفكيك التاريخ الثقيل الذي يرزح تحته الواقع العربي يشكل أحد الأسباب الرئيسية للإخفاق العربي في تاريخه الحديث. ومن دون وضعه في إطاره التاريخي، على قاعدة أن حلول الماضي لا تحل إلا إشكالات الماضي، وأن استيرادها إلى الحاضر لا يختلف كثيراً عن الاستيراد من الغرب، فالاستيراد على نوعين، عبر الجغرافيا بنقل أفكار وسلع من بلد إلى بلد لا يتماثلان في القيم والتطور والمشكلات، وعبر الزمن باستيراد أفكار وقيم وحلول لا تنتمي إلى الزمن الراهن، ولا تجيب على مشكلاته، إنما تعمق جراحه، وتجعله يدور في حلقةٍ مفرغةٍ لا يمكن الخروج منها. وهذا ما نجده في العلاقة المتأزمة مع الغرب، فالعربي لا يستطيع أن يرى صورته الحقيقية، من خلال الواقع القائم للعربي اليوم، وهي صورة غير مشرفة على الإطلاق، لواقع الضعف الذي تعانيه الدول العربية واختلال المجتمعات. إنما يريد أن يرى صورته الأكثر إشراقا التي أفرزها يوماً التاريخ العربي في لحظة من لحظاته. تشكل هذه الصورة تعويضا معنويا، لكنها فعليا تساهم في تكريس حالتي الضعف والتبعية اللتين يعاني منهما، فيجد العربي نفسه بين ذروتين، لكنه يقبع بينهما في قعر الوادي، ذروة الحداثة والتقدم الغربي الذي لا يستطيع الوصول إليه، وذروة التاريخ الإسلامي الذي لا يمكن استعادته. ولبعد هاتين الذروتين، ولاستمرار ابتعادهما، يجد العربي نفسه يعيد إنتاج إخفاقاته في كل مرة بصورة أعمق من السابق.
وكلما تعمق المأزق ازداد التمسك بصورة الماضي، وهذا ما نجده في المد الأصولي الذي 
اخترق العالم العربي في العقود الثلاثة الأخيرة، وما زال يتوسع في الإطار الشعبي، حيث التمسّك بالأصول الشكلية، والتي تعمل على مساعدة البشر في الإقرار بواقعهم، بوصفها إرادة عليا لا يمكن مقاومتها إلا بالالتزام بأصول الماضي الطقوسية، ما ينتج حالةً من الشلل، تلغي كل فعالية ممكنة، فهناك ماضٍ فقدناه، ولا يمكن استعادته، فلنحاول التقرّب منه على الأقل. هذا لسان حال قطاعاتٍ متزايدةٍ في العالم العربي تعاني من التهميش والفقر والإذلال.
لا يمكن للتاريخ الثقيل إنقاذ المستقبل، بقدر ما يقوم على خنقه، فمن يبحث عن أسئلة وأجوبة هناك في الماضي يبقى هناك من دون الوصول إلى هناك، ومن دون البقاء في الحاضر وصناعة المستقبل، يبقى هناك ليندب حظه على زمنٍ لم يعشه، ولا يعمل على صناعة مستقبله الذي يشكل الإمكان الوحيد لإنجاز حياةٍ أفضل، إذا تمت إدارة معطياته بصورة صحيحة. أما البقاء رازحين تحت احتلال التاريخ، فإن هذا من أعمق العوائق أمام أية خطوةٍ إلى الأمام. فالتاريخ على النموذج العربي يشكل احتلالاً من نوع ما، ويصادر هذا الاحتلال الحاضر والمستقبل. وللبحث عن المستقبل، علينا أن نتحرّر من هذا الاحتلال، ونضعه في سياقه الطبيعي، من أنه قد يكون درساً نافعاً، وقد يكون درساً معيقاً. وفي الحالتين، هو لا يصنع مستقبلا.

دلالات

D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.