الأصوليات والاستعارات المتبادلة

الأصوليات والاستعارات المتبادلة

10 سبتمبر 2017

(بوزيد مقران)

+ الخط -
لا تتشابه الأصوليات فحسب، بل ويستعير بعضها من بعض، على الرغم من كل تناقضاتها الظاهرة، فهي في الواقع الموضوعي تستعير آليات العمل وأدواته، ما يجعل الهيكل العظمي للأصوليات واحدا، وإن اختلفت أرديته الخارجية من أصولية إلى أخرى. كل أصولية، علمانية أو دينية، تحتاج إلى مرجع لا يشوبه الخطأ، لا من بعيد ولا من قريب، وتحتاج إلى تصور متخيّل للمستقبل، يدّعي أنه أفضل من يحول التصور المتخيل إلى واقع قائم، بوصفه المجتمع المثالي، وحتى يقوم بذلك، بحاجة إلى أدواتٍ من أجل تغيير الواقع القائم، ليتناسب مع النموذج المسبق الذي يفترضه المرجع الأساسي لهذه الأصولية. وبالنسبة لهذه الأصوليات، كل النماذج المثالية موجودة في المرجع، والخلل ليس في النموذج، إنما في من يدّعي أنه يمثل هذا النموذج، ولكن ادعاءه كاذب، يعمل على تشويه الصورة الأصلية للنموذج. لذلك ليس غريبا أن تتشابه الأصولية الماركسية مع الأصولية الإسلامية في قضايا كثيرة، مع أن من المفترض أنهما كانتا أشرس عدوين، في فترة الصراع الأفغاني. الأصوليات حركات حديثة تستدعي مرجعا سابقا نقيا، هي الوحيدة الأمينة على تطبيقه لتتحقق العدالة في العالم.
على سبيل المثال، ليست الأصولية الإسلامية عودة إلى الماضي، بقدر ما هي توسله لصناعة المستقبل، نموذجها المفترض في الماضي، لكنها تعمل على تغيير الواقع القائم، وبالتالي يتسم فعلها بالراهنية، وإذا كانت تتوسّل هذا الماضي للرد على الحاضر الفاسد "الجاهلية"، فإنها تريد منه أن يصنع المستقبل على صورة مختلفة عن الحاضر القائم، أي أنها حركات خلاصية تسعى إلى قلب المجتمعات "الحديثة" من خلال التوظيف الأيديولوجي للدين، بوصفه مشروعاً يرد على الحداثة التي تعيشها البلدان الإسلامية، والتي تسعى إلى تدمير ثقافتها الدينية. وهي كرد فعل مضاد للحداثة بالضرورة جزء منها، وبالتالي على الرغم من دعواتها إلى اعتماد مراجع تعود كتابتها إلى قرونٍ خلت، فإنها في النهاية ظاهرة حديثة، تعمل في الواقع الراهن لمجتمعاتها. 
فهذه الحركات على الصعيد الاجتماعي وليدة العالم الإسلامي الحديث، لم يخرج قادتها 
وكوادرها الأكثر تطرفا من عباءة مشايخ الدين، خريجي المدارس والجامعات الدينية في العالم العربي، بل وعلى الأغلب خرجت الكتلة الأساسية من قادة الجماعات الإسلامية التي اعتمدت الإرهاب حالة قصوى للفعل السياسي لتغيير المجتمع، من الجامعات الحديثة وهم ينتمون إلى الطبقة الوسطى ذات التعليم العالي في مجتمعاتهم، ولم يأتوا من بيئات فقيرة ومعدمة. ووجدوا في الإسلام "أيديولوجيا" انقلابية على المجتمع، بقدر ما هو دين. وبذلك ذهبوا إلى البحث في تراث الفقه الإسلامي، عن أكثر الفتاوى صداما مع المجتمع القائم، ليعبروا عن انقلابيتهم على هذا المجتمع بالوسائل العنيفة. وليس هذا فحسب، بالتدقيق بآليات عمل هذه التنظمات، نرى أنها أيضا، بقدر العداء الذي تحمل للعالم الحديث، استعارت منه جهازها المفهومي أيضا خدمة لمشروعها، من دون أن تعلن ذلك، ولكن ليس من الصعب رؤية هذه الاستعارات، خصوصا من الماركسية التي كانت أصلاً قد استعارت بدورها من الدين خلاصيته. والتشابه الهيكلي بين كل من الأصولية الإسلامية والماركسية، من خلال الاستراتيجيات للتعامل مع أزمات مجتمعٍ مرفوض، والسعي إلى صياغة نماذج انقلابية بالتضاد مع المجتمع القائم، والعمل على التحكم في كل تفصيل في هذا المجتمع، وإذا كانت الأصولية تتوسّل الماضي إلا أن لهذه الارتدادية وظيفة مستقبلية ببناء مجتمع مختلف، فالحاضر بحاجة إلى التغيير وبناء المجتمع المثالي في المستقبل (إسلامي/ اشتراكي).
لا تقتصر الاستعارات والتشابه على البنية الهيكلية بين الأصولية والماركسية، بل هناك استعارات للأدوات التنفيذية للمشروع المستقبلي، خصوصا البنية الحزبية للأحزاب الماركسية، فقد استعار الأصوليون الإسلاميون من الماركسية فكرة الثورة وأحاطوها بمصطلحات قرآنية. كما اهتموا بمسألة التنظيم، وصاغوا أحزابهم إلى حد كبير على النمط اللينيني، بحيث يحل الأمير مكان الأمين العام، وتحل جماعة الشورى مكان اللجنة المركزية، ذلك لأن المواجهة مع السلطة تحتاج بنيةً تنظيميةً قوية وفعالة، تعمل في ظل أوضاع سرية، والتنظيم اللينيني من أنسب الأشكال لعمل الحركات الأصولية، خصوصا الأكثر تطرّفاً. وهو ما نراه بوضوح عند سيد قطب، الرجل الذي ترك التأثير الأكبر على المنتمين إلى التيار "الجهادي" الإسلامي الذي يمارس العنف المسلح. فقد رأى قطب أن بعث الأمة المسلمة من جديد يتطلب وجود "طليعة أوعصبة مؤمنة تعزم هذه العزيمة، وتمضي في خضم الجاهلية الضاربة الأطناب في أرجاء الأرض جميعاً"، داعياً هذه العصبة المتمسّكة بـ"حاكمية" إلى المسارعة إلى التميّز من الجاهلية المحيطة بها. مشدّداً على "أن تنفصل هذه العصبة، عقيدياً وشعورياً ومنهج حياة، عن أهل
الجاهلية من قومها". وهو شكل مجدٍ للتأثير على السلطة، ومجدٍ في بناء أخرى جديدة، ويتيح سريعاً "أسلمة" المجتمع الذي أفسدته القيم الغربية. ولأنهم لا يبشّرون بالعودة إلى الماضي تماماً، فهم يقولون بأخذ مكتسبات الحداثة من علم وتقنية من دون القيم الغربية (أخذ مكتسبات المجتمع الرأسمالي في الماركسية)، فمعادلة التغيير عند الأصوليين مزدوجة استرداد المجتمع "الجاهل"، وتملك التقنية الحديثة. فهم يدعون إلى التنمية الصناعية ومحو الأمية وتحصيل العلوم. وتمكن صياغة شعار الأصوليين، كما صاغه أوليفيه روا، بالتشابه مع شعار لينين عن كهربة روسيا، بأن الأصولية هي الشريعة زائد الكهرباء. ويفسر روا الاختراق الأصولي لأوساط المثقفين، بأزمة الأيديولوجيات، فتراجع مهابة الأيديولوجيا التقدمية، وإخفاق نموذج الاشتراكية العربية، تركا مكاناً شاغراً أمام أيديولوجياتٍ احتجاجيةٍ ورفضية جديدة، داخل مجتمعاتٍ مفكّكة البنى، انبعثت فيها فجأة أفكار الأصولية والهوية، في مسعىً لا يستهدف العودة إلى الماضي، بل الاستيلاء على الحداثة، وتملكها داخل الهوية المستعارة. لذلك نرى أن الاستعارات لم تقتصر على الهيكل والمفاهيم، بل وصل الأمر إلى حد الاستعارات الكادرية، بانتقال ماركسيين سابقين إلى الحركات الأصولية، ومن المفارقات الجارحة أن كوادر عديدة التحقت بالحركات الأصولية، حافظت على لحاها الماركسية الملحدة، لتتحول وظيفتها بالانتقال إلى الحركات الأصولية، بصفتها لحى إيمانية.
D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.