أونروا ومعاقبة الضحايا

أونروا ومعاقبة الضحايا

11 فبراير 2024
+ الخط -

وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) جزءٌ أساسي من تاريخ المعاناة الفلسطينية، فهي ليست مؤسّسة لعبت دوراً مهماً في حماية المنكوبين الفلسطينيين المقتلعين من وطنهم، من شروط معيشية أسوأ، كان يمكن أن يعيشوها من دون هذه المؤسّسة في مخيّمات اللاجئين في أماكن شتاتهم بعد احتلال العصابات الصهيونية بلدهم وإحلال آخرين في بيوتهم التي تركوها وراءهم بفعل الحرب.

منذ ولادتها، تُحيل "أونروا" في عملها إلى النكبة الفلسطينية، بوصفها المنطلق الذي ولدت في سياقة هذه المؤسّسة الأممية، ما يعني أنّ وجودها كمؤسسة مهمّتها "إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين"، يعيد كلّ المعاناة الفلسطينية إلى الجريمة التي ارتُكبت بحق هذا الشعب الذي طُرد من وطنه. وهؤلاء اللاجئون المشغولة بهم الأونروا، لهم الحقّ في العودة إلى ديارهم التي طُُردوا منها، كما ينص القرار 194 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة. وتعمل هذه الوظيفة ل"أونروا"، بصفتها سجلاً للنكبة الفلسطينية، على التذكير دائماً بالجريمة الأصلية التي ارتُكبت بحقّ الفلسطينيين لتأسيس دولة إسرائيل على أنقاض وطنهم فلسطين. ولأنّ إسرائيل تعمل على إلغاء "حقّ العودة للفلسطينيين"، وإلغاء "أونروا" لشطب واحد من أهم سجلات الجريمة الإسرائيلية بحقّ الفلسطينيين الذين ما زالوا في مخيّمات اللجوء، الدليل الحيّ على الجريمة الإسرائيلية. ولطالما عملت إسرائيل على إلغاء الوكالة الأممية وتفكيك عملها، ما يُضعف قضية اللاجئين الفلسطينيين، تمهيداً لشطبها النهائي.

وجدت إسرائيل غايتها للمسّ ب"أونروا"، من خلال اتهام عاملين فيها بمشاركتهم في هجوم "حماس" على إسرائيل في 7 أكتوبر. ولو صحّت هذه الاتهامات، فهم 12 موظفاً من أصل ثلاثين ألف في قطاع غزّة، واتهمت إسرائيل المفوض العام للوكالة، فيليب لازاريني، بأنه داعم للإرهاب، وهي ليست المرّة الأولى التي تتهم إسرائيل "أونروا" بهذا. وبناءً على هذه الاتهامات، طلبت إسرائيل من الدول المانحة وقف مساعدتها للوكالة الأممية، واستجابت 12 من الدول الأكثر تمويلاً، في مقدّمتها الولايات المتحدة، المانح الأكبر ل"أونروا"، فتحت الأمم المتحدة تحقيقاً في القضية، وطردت موظفين فيها بناءً على هذه الاتهامات، من دون أن يشكل قتل إسرائيل أكثر من 152موظفاً في "أونروا" أيّة إدانة من هذه الدول للجرائم الإسرائيلية.

الحرب الإسرائيلية هي على الوجود الفلسطيني في كلّ مكان، بوصف الوجود الفلسطيني أينما كان، يُشكل تهديداً وجودياً لإسرائيل

بصرف النظر عمّا سيسفر عنه تحقيق الأمم المتحدة، واضحٌ أنّ هناك استهدافاً للوكالة يبحث عن ذريعة، وجدتها إسرائيل في هذا الاتهام لموظفين بالمشاركة في هجوم 7 أكتوبر. وعلى فرض صحة هذا الاتهام لهذا العدد المحدود من الموظفّين، هل يُعاقَب خمسة ملايين لاجئ فلسطيني من أشدّ فئات الفلسطينيين ضعفاً يعيشون في أربعة بلدان؟!

لا يمكن فصل الإجراءات ضد "أونروا" عن الحرب الإسرائيلية المجنونة على قطاع غزّة بالوسائل العسكرية، وهي حربٌ على كل الحقوق الوطنية الفلسطينية بالمعنى السياسي، فلا تعمل إسرائيل في حربها على هزيمة حركة حماس فحسب، بل هي تريد هزيمة الفلسطينيين والوطنية الفلسطينية والحقوق الفلسطينية أيضاً، أي إنّ الحرب الإسرائيلية هي على الوجود الفلسطيني في كلّ مكان، بوصفه، أينما كان، يُشكّل تهديداً وجودياً لإسرائيل. وفي هذا الإطار، يمكن فهم الهجوم الإسرائيلي على الوكالة وعلمها بوصفها من العناوين الأكثر بروزاً لوجود قضية فلسطينية في مواجهة إسرائيل.

الدول التي قطعت مساعداتها عن "أونروا"، تعبّر عن سياسة عنصرية تجاه الفئات الأكثر ضعفاً من الفلسطينيين

يبدو أنّ معاقبة الضحايا والفئات الأكثر ضعفاً هي السياسة التي اعتمدتها الدول الكبرى في مواجهة المشكلات التي تواجهها في الدول الأكثر فقراً، فقضية "أونروا" تندرج في هذا الإطار. اختارت هذه الدول معاقبة المحتاجين، فهل سيؤدّي عقاب المعدومين وتحويلهم إلى يائسين بالمطلق إلى أن يرفعوا الرايات البيضاء، وأن يطيّروا حمام السلام تجاه قاتلهم في سماءٍ لا يروْنها سوى حالكة السواد تلقي عليهم القنابل والصواريخ والجوع أيضاً، بفعل سياسات الدول الكبرى الحامية لعدوانية إسرائيل تجاه السكّان المدنيين والمعدمين في القطاع الذي حاصرته 17 عاماً. تحويل المعدمين إلى يائسين مساهمة في دفعهم إلى الحقد على هذا العالم الظالم والمنحاز بالنسبة إليهم، ودفعهم إلى التفكير في الانتقام ممن عاقبهم وأجرم بحقهم، والمسّ بمن مسَّ بهم. لا يأتي البحث عن سلام في المنطقة من معاقبة الفئات الضعيفة، بل من الاعتراف بحقوقها ومساعدتها على الاعتماد على نفسها، وليس بتحطيم حياتها وتدمير بيوتها وقتلها وقتل أطفالها، ومن ثم إغلاق المؤسّسات التي تساعدهم من أجل الاستمرار في حياتهم في الحدّ الأدنى البشري.

وبعد ذلك، تتساءل إسرائيل والدول الكبرى: من أين يأتي هذا العنف في المنطقة؟ ولا تريد أن ترى أنّ هذا العنف تصنعه السياسات التي تمارسها في المنطقة من الدعم المطلق للدولة الأكثر عدواناً في المنطقة، تدعم حرب إبادة في مواجهة جموع السكّان في غزّة، الذين باتوا في أغلبهم لاجئين في القطاع، وفي الأصل أغلب سكّان القطاع لاجئون إليه بفعل النكبة الأولى. لم يترك جيش الاحتلال الإسرائيلي مكاناً آمناً في قطاع غزّة، لقد دمّر أغلب مباني القطاع وجعلها غير قابلة للسكن، وهَجّرَ كلّ السكان تقريباً من أماكنهم، وهؤلاء الذين هاموا على وجوههم يُعاقبون بحرمانهم من المساعدات الشحيحة التي يحصلون عليها. وتعبّر الدول التي قطعت مساعداتها عن "أونروا" عن سياسة عنصرية تجاه الفئات الأكثر ضعفاً التي كوتها الحرب الإسرائيلية، وهي لا تريد أن ترى آلام الضحايا في غزّة وغيرها، وتدعي أنّ من حقّ الجلاد أن يدافع عن حقه في التوغّل في دم الضحايا، لأنّ الضحية جرحت كرامته، وأظهرت فشله، وهو ما اعتبره تهديداً وجودياً، يسعى إلى الردّ عليه بإبادة الفلسطينيين، وهي عنصرية وقحة، من إسرائيل ومن داعميها، الذين يريدون قتل "أونروا" التي كانت على كلّ عيوبها أمّ الفلسطينيين التي حمتهم في ظروفٍ كثيرة، وكانت عنواناً وراية لقضية اللاجئين التي لن تموت.

D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.