القمة العربية.. طغيان الشكل على المضمون

القمة العربية.. طغيان الشكل على المضمون

14 ابريل 2018
+ الخط -
تنعقد القمة العربية العادية في الظهران، غدا الأحد (15 إبريل/ نيسان الجاري). وبثبات انعقادها الدوري، فإن هذه المؤسسة تثبت أنها ما زالت صامدة أمام التقلبات والتجاذبات التي تعصف بالنظام العربي، على أن من دواعي الأسف أن النجاح على صعيد الشكل لا يرافقه نجاحٌ مماثلٌ على صعيد المضمون.
غير أنه، وفي ضوء ما هو معلوم من الواقع الرسمي العربي، وكما هو جاري العادة في التوقعات حيال هذا الاستحقاق، واكتفاءً بالحد الأدنى من التوافقات المنتظرة، فإن التئام القمة التاسعة والعشرين، وإن بتأخيرٍ طفيفٍ استغرق 19 يوماً عن الموعد الأصلي، يمثل "مكسباً" للتشاور العربي الجماعي، إذ ليس ثمة من بديل راهنٍ وملموس لهذه الصيغة، سوى مزيد من التفلت من موجبات الالتزام بقراراتٍ سابقةٍ للقمم ولمجلس جامعة الدول العربية. ولا يحسب المرء أن هناك في مكان ما جامعة عربية شعبية كامنة، تُعلّق الآمال على انتصابها واستوائها في الأمد المنظور، لتدارك أي تقصير رسمي، أو لردم الفجوات وتفعيل قرارات الإجماع السابقة. وأيا تكن التقديرات، فإن أحداً ليس في وسعه توقع أن يكون حال العرب أفضل أو أقل سوءاً، إذا ما تم إسدال الستار على القمم ونسيان أمرها.. إذ ما زالت هذه المناسبة التي يطغى فيها الشكل على المضمون تمثّل فرصةً لامتحان الالتزامات الرسمية، وللحكم على مدى جدّية السياسات، من خلال النظر في التعهدات التي تبنّاها أصحاب القرارات في لقاءاتهم السابقة، وخصوصا التي واظبوا على إطلاقها مرة بعد مرة، وقمة تلو أخرى، وبغير انقطاع.
هناك على سبيل المثال ما انتهت إليه قمة البحر الميت في الأردن قبل نحو عام، بالتشديد على إنهاء الصراع الفلسطيني - العربي/ الإسرائيلي "على أساس حل الدولتين الذي يضمن قيام 
الدولة الفلسطينية المستقلة على خطوط الرابع من حزيران عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، والذي يشكل السبيل الوحيد لتحقيق الأمن والاستقرار". ويُحسن القادة صنعاً لو أعادوا التزامهم بما سبق لهم الالتزام به، ودونما حاجةٍ لصياغة مستحدثة، على أن تؤخذ في الاعتبار المستجدات: التسليم الأميركي بتسمية المحتلين الإسرائيليين للقدس عاصمة لاحتلالهم البغيض، وموافقة واشنطن على هذه التسمية، ثم الزيادة على ذلك بإعلان نقل السفارة الأميركية إلى القدس في موعد تحدد بعد شهر على موعد القمة العربية المقبلة. و"الطريف" أن حجة الرئيس ترامب، بخصوص القرار الطائش بنقل السفارة، تمحورت حول أنه سبق له، في حملته الانتخابية، أن أطلق هذا التعهد، وكأن الخطأ يمكن اعتباره أمراً صحيحا، بمجرّد التمسّك بهذا الخطأ الذي تم التعبير عنه عبر وعدٍ ارتجالي لغايات انتخابية، بدل الاعتذار عن الخطأ وتصحيحه. أما التسليم لمن استولوا على المدينة العربية المقدسة بحقهم في هذا الاستيلاء، ومنحهم صك تمليك له، فلا يعدو أن يكون تعبيراً عن نزعة استعمارية وعنصرية عفا عليها الزمن، ولا تليق بأميركا، نزعة تعود إلى ما قبل اهتداء البشرية إلى تجريم حروب الاقتلاع والاستيلاء والتوسع، وقبل إنشاء منظومة دولية للأمم، وقبل بلورة أحكام القانون الدولي. وأقل ما يقال في هذا المنزلق أنه يطعن بالصداقة العربية الأميركية، ويشكل عبثاً خطيراً بالمسار السياسي والتفاوضي، وبالقرارات الدولية، ويشرعن قانون الغاب. وإذا ما قيّض للقمة العتيدة تسمية الأشياء بأسمائها، وأن تدين الاستخفاف الأميركي المتمادي بالحقوق العربية في عهد الرئيس ترامب، وترفض تداعيات هذا الاستخفاف، فإن لها حينئذ أن ترحب بأية مبادرة سياسية من قبيل صفقة ترامب (مع من؟) أو سواها من مبادرات دولية، شريطة الالتزام التام بالقرارات الدولية ذات العلاقة، وبمبادرة السلام العربية، واعتبار القدس، شأنها شأن الجولان السوري، جزءاً لا يتجزأ من الأراضي العربية المحتلة منذ الخامس من يونيو/ حزيران 1967، فالصداقة تقوم على الاحترام المتبادل، وليس على استخفاف طرفٍ بآخر، وسبق للعرب أن تمسكوا بهذه المبادئ، ولم تتضرر حينئذ العلاقات العربية الأميركية، أو علاقات العرب بشتى دول المعمورة.
ولأن من واجب القمة رفض التوسع الإسرائيلي ومقاومته بالوسائل المشروعة، كذلك فإن الواجب يقضي بالتصدّي لأية تدخلاتٍ ذات نزعة توسعية وإمبراطورية، كحال التدخلات الإيرانية في منطقتنا، بما في ذلك مخاطر الطموح النووي الإيراني، وحيث إن الخليج والمشرق العربيين، هما مدار التدخلات الإيرانية، فإن الترابط إلى حد التلازم بين الأمرين: الملف النووي والتدخلات، ينبغي أن يظل نصب الأعين ومثار الاهتمام. فإيران السائرة على الطريق النووي تشتد خطورة سياساتها عن ذي قبل، وذلك بما تبثه من رسائل ضمنية أن تدخلاتها تقترن بنمو قدراتها التسليحية (ولو على حساب شعبها كما صدحت بذلك حناجر آلاف المحتجين في خمسين مدينة إيرانية)، وإن على العرب التكيّف مع الأطماع الإيرانية والترحيب بها، وإلا فإن الشعوب والدول العربية سوف تدفع الثمن، وكما تدفعه شعوب إيران.
على أن يكون واضحاً أنه لا يمكن مقايضة حقٍ بحقٍ ثانٍ، وإلا فإن التمسّك بجُملة الحقوق هنا
 وهناك، يصبح محل تساؤل ونظر، فاستعادة الحقوق (الأرض أولاً) من المحتلين الإسرائيليين غير قابل للتراجع عنه، بدعوى التركيز على التحدّي الإيراني، تماماً كما أن الاستجابة لهذا التحدي، وإدراك مدى جسامته وخطورته، ومنحه كل ما يستحق من اهتمام وتعبئة موارد واستنفار سياسي، لا تعني التهوين من خطر استمرار الاحتلال الإسرائيلي والتهويد القسري للقدس العربية. والثابت أن أي تراجعٍ في مواجهة تل أبيب أو طهران، سوف ينعكس سلباً على مواجهة الخطرين معاً، إذ إنه سينطوي على استعدادٍ للتراجع في أية مواجهة، وتجاه كل تحدٍ أو خطر، أيا كان منشؤه.
ولا يحتاج المرء للتذكير بخطر الإرهاب، حتى لو تقلص هذا الخطر بعض الشيء عما كان عليه منذ عام مضى. ومن الواجب مواصلة التصدّي له، وتجفيف منابعه وموارده واستئصال شأفته، من أجل حفظ نسيج المجتمعات ومَنَعة الأوطان، مع الأهمية الواجبة للتصدي لكل فكرٍ لا يعبأ بحقوق الإنسان، أفراداً وجماعات، أو يبث الكراهية بين أصحاب العقائد، أو يرفع الحواجز المصطنعة بينهم، مع إدانة كل إجراءات أو سياسة أو تدابير تستهدف المدنيين والمرافق المدنية ووصمها بما هي عليه، بوصفها سياسة إرهابية، وكما هو الحال في سورية الجريحة التي تعرّض شعبها للويلات من الإرهاب، ومن السياسات التي تزعم مكافحة الإرهاب، فيما هي تنهج النهج الإرهابي نفسه، في العداء المطلق للبشر، ولمظاهر الحياة والطبيعة والعمران.
وبما أن قمة الظهران تعقد في رحاب المملكة العربية السعودية، فالأمل معقودٌ بأن تتمسّك بمجلس التعاون الخليجي، باعتباره التكتل الإقليمي/ العربي الأهم، والذي انعكس تماسكه إيجاباً وخلال ثلاثة عقود، على جامعة الدول العربية، وعلى العمل العربي الجماعي، ولو في حدودٍ دنيا، لكنها أساسية.