الهجرة الجزائرية.. المقدّس في نجدة المدنس

الهجرة الجزائرية.. المقدّس في نجدة المدنس

10 فبراير 2018
+ الخط -
أصبح مشهد الهجرة في الجزائر ثلاثي الأبعاد، فالجزائر التي كانت وتبقى مصدراً للهجرة المغادرة نحو أوروبا أصبحت أيضاً أرضاً مستقبلة للهجرة الإفريقية الوافدة ومنطقة عبور لها، فالمهاجرون الأفارقة الذين لم يحالفهم الحظ في العبور إلى أوروبا يستقرّون في الجزائر.
وتشير أرقام 2017 إلى تصاعد وتيرة المهاجرين الجزائريين الذين يغادرون البلاد سراً باتجاه أوروبا، فحسب أرقام المفوضية السامية للاجئين التابعة للأمم المتحدة، وصل 3697 مهاجراً جزائرياً غير شرعي إلى أوروبا  بين يناير/ كانون الثاني وأكتوبر/ تشرين الأول 2017. وخلال صيف العام نفسه، كان الجزائريون ضمن الجنسيات الخمس (سورية والمغرب ونيجيريا والعراق) الأولى من حيث عدد المهاجرين الذين وصلوا إلى الأراضي الأوروبية.
وتفصح الجهات الرسمية الجزائرية باستمرار عن أرقام مقلقة بشأن عدد الجزائريين الذين يركبون قوارب الموت. وهي أرقام تبقى بعيدة عن الحقيقة، لأنها تخص المحاولات الفاشلة، أي عدد الذين تم اعتراضهم في عرض البحر، وأعادتهم إلى أرض الوطن قوات خفر السواحل ووحدات البحرية، أو قوات الأمن، لاسيما الدرك الوطني، وهم على وشك ركوب قواربهم. وقد تم اعتراض حوالي ما يقارب ستة آلاف مهاجر سري في 2017. وبالتالي، فالأرقام تبقى محدودة، لأنها لا تتضمن عدد الذين لقوا حتفهم في البحر المتوسط، وعدد الذين نجحوا في الوصول إلى الأراضي الأوروبية.
فضلاً عن الأرقام المقلقة، فإن الخلفية الاجتماعية للمهاجرين السريين دلالة هي الأخرى على 
شعور باليأس وفقدان الأمل في مستقبل البلاد. إذ تفيد المعطيات المتوفرة بأن ظاهرة الهجرة السرية لم تعد تقتصر على شبابٍ بطال، بل تمس كل فئات الجزائريين من فقراء وأثرياء، من عزاب وعائلات، من شباب وكهول وحتى شيوخ، وقصّر (186 قاصراً في 2017) ونساء (186 امرأة في السنة نفسها) بل وحتى نساء حوامل في بعض الحالات.
وبشأن استفحال ظاهرة ملف الهجرة السرية، فإنه تحول إلى خلاف واضح، وتراشق متبادل بين السلطة والمعارضة، عبر وسائل الإعلام. فالأولى، كعادتها تحمّل غيرها ما آلت إليه الأمور، بينما تحمل الثانية الأولى المسؤولية. والمثير للانتباه في السجال موقف السلطة، فعلى الرغم من تطويرها ترسانة قانونية، جرّمت من خلالها الهجرة السرية، وقدرات الأجهزة الأمنية المنخرطة في محاربة الظاهرة، إلا أنها فشلت في الحد منها. بل استفحالها العام الماضي دلالة على خلل واضح في إستراتيجيتها القانونية والأمنية. وبدل مساءلة نفسها، لأنها تتحمل مسؤولية الوضع في البلاد، والذي يدفع آلاف الجزائريين، من مختلف الخلفيات الاجتماعية، إلى المخاطرة بحياتهم، هروباً من وطنهم، تحاول السلطة الهروب من مسؤوليتها بتحميلها الغير فشلها السياسي والاقتصادي. إذ تحمل الحكومة العائلات والمدرسة المسؤولية! أما مؤسستها الدينية (الإسلام الرسمي) فقد أصدرت فتوى، عبر المجلس الإسلامي الأعلى (أعلى هيئة إفتاء في الجزائر)، يحرّم فيها الهجرة السرية، محاولاً، هو الآخر، تبرئة الحكومة مما آلت إليه الأمور في البلد إلى درجة سعي جزء من أهلها مغادرتها، حتى وإن كلفهم ذلك حياتهم. أن يفضل المرء مغادرة بلاده مغامراً بحياته على البقاء فيها أمر خطير، يستحق التفكير المعمق، ومراجعة الذات السياسية ومحاسبتها، وليس تحميل الآخر تبعات الأمور وإضفاء صبغة دينية على أزمة سياسية واقتصادية. ثم أي مصداقيةٍ لإسلام رسمي لا ينطق، ولا بفتوى واحدة، لما يتعلق الأمر بانتشار الفساد، وتحوله مؤسسة في البلاد، وبانتهاك الحريات وغياب المساواة الاجتماعية... كما تستخدم السلطة المساجد، لنشر خطابٍ بشأن تحريم الهجرة وتبرئة سياساتها، فيما تحمل الغير، لاسيما العائلات، الظاهرة.
عموماً تعتبر السلطة ومؤسستها الدينية أن محاربة الهجرة غير الشرعية مسؤولية الجميع. 
والمثير للانتباه أيضاً الانخراط الواضح لوزير الشؤون الدينية والأوقاف في نقاشٍ يخص مسألة اجتماعية - اقتصادية وسياسية، إذ لم يتردّد في التصريح بأن شباب الهجرة السرية ضحايا "لعدة عوامل، منها حالة الإحباط التي يعاني منها، بفعل تأثير شبكات التواصل الاجتماعي وبعض محترفي السياسة" (يقصد المعارضة)، مؤكداً أن محاولتهم مغادرة الوطن تعود أيضاً إلى خطابٍ سياسيٍّ يسد الأفق أمامهم (في إشارة إلى خطاب المعارضة أيضاً)، لكن الواقع غير ذلك، فالهجرة السرية سابقة لشبكات التواصل الاجتماعي، واستفحالها غير مرتبط بها، والمشكلة ليست في الخطاب عن انسداد الأفق، بل الانسداد نفسه، وهو واقع لا يمكن تجاوزه والتحايل عليه، مهما كانت المزاعم والفتاوى.
هناك عاملان أساسيان يفسران الهجرة السرية، هما البؤس الاجتماعي – الاقتصادي، وانسداد الأفق السياسي. فوضع البلاد الاقتصادي في تدهور مستمر، لا سيما منذ 2014، مع التراجع الكبير في عائدات النفط، أما وضعها السياسي، فيتميز بالانسداد البنيوي، ما يعني، بالنسبة للمرشحين للهجرة، شرعية أو غير شرعية، أن لا أمل ولا مستقبل لهم في بلادٍ لا يرون فيها أفقا. خصوصا أن الحكومة التي تعمدت، منذ سنوات، تبني سياسات اقتصادية غير واقعية قصد شراء الذمم وشراء السلم الاجتماعي، استيقظت أخيرا، وعوض تبني خطاب عقلاني تبالغ في التهويل مما هو آتٍ، مثيرة مخاوف حتى لدى الفئات المتوسطة العليا والثرية. فالحكومة انتقلت، في وقت وجيز، من خطابٍ حول جنة جزائرية إلى خطابٍ حول جحيم التقشف والأزمة المالية، متجنبة بالطبع مساءلة سياسات السلطة سنوات، لاسيما خلال سنوات البقرات السمان.
ما دام القائمون على البلاد يتهرّبون من مساءلة الذات السياسية، ليس بالضرورة لمعرفة من هو المسؤول، لتحديد مواطن الخلل في سياساتها الاقتصادية والاجتماعية، وتدارك أخطائها، ليس فقط لتحسين الوضع المعيشي للجزائريين، اقتصادياً وسياسياً، وإنما لتجنب تكرار الأزمات نفسها، فإن ظاهرة الهجرة، السرية والمنتظمة، مرشحة للتفاقم. لذا يتعين إعادة النظر ومراجعة السيرورة الاجتماعية والسياسية التي أوجدت حالة اليأس العارمة التي تتسبب في إفراغ البلاد تدريجياً من أهلها.