في جنوب المتوسط.. وشماله

في جنوب المتوسط.. وشماله

27 يناير 2018
+ الخط -
تشكل حالة عدم الاستقرار وتدهور الأوضاع الاقتصادية في المغرب العربي هاجساً أمنياً وسياسياً لأوروبا، دولاً واتحاداً. فالأخيرة مجبرة على مسايرة الأنظمة المغاربية، والتعاون معها، لأنها بحاجة إليها في مكافحة الهجرة والإرهاب، لكنها تعلم أن فشل هذه الأنظمة وقمعها أهم أسباب هذه الهجرة المتواصلة نحو الشمال الموعود. إنها معضلة مستعصية الحل. ويزيد انسداد الأفق السياسي والاقتصادي في جنوب المتوسط من هموم أوروبا وهواجسها.
كانت الأوساط الأوروبية تتوقع تراجعاً لموجات المهاجرين القادمين من المغرب العربي، ومن أفريقيا، في شهر يناير/ كانون الثاني 2018، إلا أن دولاً ومؤسسات أوروبية عبرت عن قلقها من تنامي الهجرة السرية المغاربية نحو دول الاتحاد الأوروبي، والذين يصلون إليها بحراً بالنظر إلى أعداد المهاجرين الذين تم إيقافهم وهم في طريقهم إلى الأراضي الإسبانية خصوصاً. وتتوقع أوساط أوروبية والوكالة الأوروبية لحراسة السواحل والحدود فرونتاكس ارتفاعاً في وتيرة الهجرة السرية نحو إسبانيا، عبر الأراضي المغربية، ثم مضيق جبل طارق.
مع تحول طريق الهجرة عبر ليبيا إلى أكثر من محفوف بالمخاطر، بالنسبة للمهاجرين الأفارقة، بسبب ما تعرفه البلاد من صراع مسلح وممارسة الرق في حق المهاجرين، تراجعت تدفقات المهاجرين انطلاقاً من السواحل الليبية. وأصبح الممر الغربي (إسبانيا عبر المغرب) للمتوسط أكثر نشاطاً من الممر الأوسط عبر ليبيا والممر الشرقي عبر اليونان. بيد أن من المفروض أن يسمح تركيز فرونتاكس قواتها على الممر الغربي بالحد من تدفقات المهاجرين التي بلغت أرقاماً قياسية في 2017، ما جعل الرواق الإسباني يقترب، من حيث نسبة العبور السري للمهاجرين، من الرواق اليوناني.
لكن المعادلة الأهم في المخاوف الأوروبية من تزايد الهجرة السرية القادمة من الساحل 
الإفريقي للمتوسط، سياسية بكل المقاييس، ذلك أن السلطات السياسية والأمنية الأوروبية تتوجس من انعكاسات الوضع في دول المغرب العربي، فالدولة الليبية منهارة تماماً، والبلاد أصبحت نقاط عبور للمهاجرين، وسوق رق القرن الواحد والعشرين. أما تونس فعمليتها الانتقالية لا تزال في مراحلها الأولى، ولم تحسّن من الوضع المعيشي للمواطنين التونسيين الذين ربحوا الحرية من جهة، وشظف العيش من جهة ثانية، على الرغم من أن ثورتهم كانت من أجل الكرامة بكل معاني الكلمة. فلا الإصلاحات السياسية تقدمت كما ينبغي، ولا الإصلاحات الاقتصادية أتت أكلها. بل عادت دينامية الانتفاضات الشعبية مجدّداً إلى شوارع المدن التونسية، متسببةً هذه المرة في مواجهاتٍ بين الجيش والشباب، ما ينذر بتصدّع في الجسد الاجتماعي السياسي الذي مكّن تماسكه من إنجاح انتفاضة 2011.
وفي الجزائر، بلغ الوضع السياسي درجة عالية من الانسداد، مع تراجع رهيب للحريات الأساسية والحريات الأكاديمية. بينما ازداد الوضع الاقتصادي سوءاً في العام الماضي ومطلع العام الجاري جرّاء تراجع عائدات النفط، وما ترتب عنه من تقشف وخفض في الإنفاق العام وإلغاء مشاريع واستثمارات كثيرة. تسبب الانسداد السياسي والتدهور الاقتصادي في زيادة حدة الاستقطاب السياسي والغليان الاجتماعي، مع استمرار الاحتجاجات وتضاعف المطالب العمالية والاجتماعية في عز التقشف. والنتيجة سقوط حر للقدرة الشرائية واحتقان سياسي.. أما في المغرب، فلم تؤتِ الإصلاحات السياسية أكلها، لأنها أُفرغت من محتواها، وبقيت عملياً حبراً على ورق، في وقت تدهور فيه الوضع الاقتصادي، وتراجعت فيه القدرة الشرائية والحريات الأساسية. وتعرف البلاد حراكاً شعبياً في الريف، أين تواجه الحكومة وقوات الأمن مظاهرات شعبية، لسان حالها هي الأخرى الكرامة، وهذه هي القاسم المشترك لانتفاضات (واحتجاجات) شعوب المنطقة التي عيل صبرها من الأنظمة الجاثمة على صدورها عقوداً.
تدعم الأرقام هذا التوجس الأوروبي، فحسب فرونتاكس، بلغ عدد المهاجرين الذي وصلوا إلى إسبانيا 23 ألف مهاجر في 2017. وما يقلق أوروبا ليس هذا العدد الهائل فقط، وإنما أن حوالى عشرة آلاف منهم رعايا جزائريين ومغربيين، ما يعني أن ما يقارب نصف عدد المهاجرين مغاربة. ولا يمكن تحليل هذا الرقم بمعزل عن تردّي الأوضاع السياسية والاقتصادية في الجزائر والمغرب التي تدفع مزيداً من الشباب نحو مغادرة البلاد باتجاه الدول الأوروبية، فالأمر ليس مجرد مدركات تهديد أوروبية، بل هو نتاج واقع مغاربي مثير للقلق.