تونس.. خطوات نحو دولة القانون

تونس.. خطوات نحو دولة القانون

08 فبراير 2018
+ الخط -
مؤكدٌ أن السمة العامة لدول الاستبداد هي حالة امتزاج السلطات إلى الحد الذي يصبح فيه أساطين الحكم خارج كل مساءلةٍ من هيئاتٍ منتخبة أو خاضعين لرقابةٍ شعبيةٍ، يضمنها حق دستوري في النقد والتعبير الصريح عن معارضة خيارات الحاكم، والدعوة إلى مجاوزتها وإطاحتها عبر الصناديق، دع عنك أن يكون المتنفذون في أجهزة الحكم خاضعين لحكم القضاء، فهم يتصرّفون بالاستناد إلى إراداتهم الخاصة في البطش بكل من ينتقدهم، من دون العودة إلى ما يقتضيه القانون. 

ولم تكن تونس زمن الاستبداد بدعاً من هذا الأمر، فهي لم تعرف وضعياتٍ يمكن فيها للقاضي أن يكون حكما بين الطاغية وحاشيته من الوزراء والمتنفذين في مواجهة المواطن، بقدر ما تم تدجين الجهاز القضائي، وعدم الاعتراف بقيمته سلطةً مساويةً للسلطتين التنفيذية والتشريعية، وقادرا على إصدار الأحكام خارج القرارات الرسمية أو التوجيه عبر الأوامر والمكالمات الهاتفية. ويذكر الجميع في تونس قصة المدون المرحوم زهير اليحياوي الذي كان احد أشرس المتصدين لنظام الاستبداد عبر قوة الكلمة والتدوين الإلكتروني وصاحب الموقع الشهير حينها "تونيزين" الذي طرح استفتاء مؤداه هل تونس جمهورية أم مملكة أم حديقة حيوانات أم سجن؟ وكان رد فعل السلطات يومها اعتقال المدون من دون محاكمة عادلة أو حتى على حق توضيح موقفه، وانتهكت كل حقوقه الأساسية.
يبدو أن تحولات فعلية قد جرت في تونس، وبشكل لا يمكن لمراقب موضوعي أن ينكرها.
 وهناك حادثتان لهما دلالة رمزية كبرى. أولاهما رفع رئيس الجمهورية دعوى ضد مواطن بدعوى الإساءة إليه في تدوينةٍ نشرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وكان الحكم الصادر لا يتجاوز ثلاثة أشهر سجنا مع تأجيل التنفيذ، أي أن المواطن لن يتعرّض للسجن ولا للتعذيب، ما يُعتبر سابقة ليس لها نظير في العالم العربي، من حيث لجوء الرئيس إلى القضاء، ومن حيث طبيعة الحكم، حيث اعتاد الناس في المنطقة العربية، ومنها تونس، أن مجرد ذكر رئيس الجمهورية يودي بصاحبه وراء الشمس، فضلا عن أن يتمتع بالحق في محاكمة عادلة، وتنظر فيها المحكمة بما يقتضيه القانون، من دون ممارسة الضغوط عليها لتأديب المواطن، وجعله عبرة لكل من يفكّر أو يدور في خلده انتقاد الحاكم المطلق. وقد علق المواطن المعني بعد صدور الحكم مدوّنا على فيسبوك "رغم عدم اقتناعي بقرار المحكمة، إلا أنه لا يمكن إلا القبول بهذه الأحكام". الحادثة الثانية، رفع وزير الداخلية قضية ضد مدون تونسي آخر، مثل أمام القضاء، بجريمة نسبة أمور غير صحيحة إلى موظف عمومي، والإساءة إلى الغير عبر شبكات التواصل الاجتماعي. وجاء حكم المحكمة لصالح المواطن بعدم سماع الدعوى.
تكشف الحالتان عن تحوّل فعلي في نمط تعامل السلطة السياسية مع مواطنيها من ناحية، وفي الوقت نفسه، تؤكد مدى الاستقلالية التي أصبح يحظى بها القضاء التونسي بعد الثورة. وعلى الرغم من أن وزراء كثيرين ماسكين بزمام السلطة التنفيذية في تونس هم من بقايا النظام السابق، وممن تربوا في أحضان الاستبداد، وهو ما يفسر ضيقهم بالنقد وحالة الحرية الواسعة التي يتمتع بها مدوّنو شبكات التواصل الاجتماعي، إلا أن تحولات المشهد الديمقراطي جعلت عسيرا عليهم ممارسة السلطة بشكلها المطلق، والتعسّف في استخدام الصلاحيات التي خوّلها لهم القانون، فلم يعد ممكنا محاكمة الناس من دون قضاء عادل، أو الحق في مراجعة المحامين، فضلا على أن أحكام القضاء لم تعد جاهزة في خدمة أصحاب السلطان، بقدر ما هي تعبير عن ضمير القاضي الذي يحترم القانون قبل كل شيء.
والحقيقة أن القضاء التونسي تعرّض لحالة من التضييق والإخضاع زمن الاستبداد، شأن باقي قطاعات الشعب، وعرف حينها وجوها قضائية مناضلة، أبرزها القاضي مختار اليحياوي، ومواقف جمعية القضاة التي تمسك بالحد الأدنى من الدفاع عن استقلالية القاضي، على الرغم من الانقلاب عليها حينها، والسعي إلى تدجينها. واليوم، وفي غضون السنوات السبع من عمر الثورة التونسية، يمكن القول إن القضاء التونسي تمكّن من افتكاك موقع متقدم في الدفاع عن منظومة الحقوق والحريات خارج ضغوط السلطة التنفيذية، وبعيدا عن تسلط المنطق البوليسي الذي كان يتعامل مع المواطن المعتقل على خلفية قضايا الرأي، بوصفه متهما حتى تثبت براءته، خلافا لما تقتضيه القاعدة القانونية أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته. وفي المجمل، يمكن التأكيد أن تونس بدأت بالفعل، وبشكل واضح، خطواتها نحو دولة القانون، وبشكل يصبح أكثر رسوخا، وبصورة تدريجية على النحو الذي يضمن تثبيت أركان الدولة الديمقراطية التي لا تتقوّم إلا بفصل السلطات واستقلاليتها، واحترام هيبة القضاء ومنحه المكانة التي يكفلها له الدستور التونسي الجديد في الجمهورية الثانية.
B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.