التفكير الاستراتيجي ومنطقة في قلب الخطر

التفكير الاستراتيجي ومنطقة في قلب الخطر

02 فبراير 2018
+ الخط -
حضرت واحدة من أهم ورش العمل المغلقة، تتعلق بموضوع في غاية الأهمية، يعبر عن ضرورة بناء رؤى استراتيجية قادرة على التحديات التي تواجه المنطقة التي صرنا نكابدها ونعايشها ليل نهار، في مشكلات وقضايا شتى، تحتاج منا نظرا استراتيجيا وعملا وخططا. أقام الورشة مركز دراسات الإسلام والشؤون الدولية في جامعة صباح الدين زعيم في تركيا يومي 27-28 يناير/ كانون الثاني، بعنوان: التغيير السياسي والاجتماعي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من منظور الجغرافية السياسية. شارك فيها نحو أربعين من الباحثين وأهل الحركة من المنطقة العربية والدول المجاورة، من تركيا ومصر وسورية والسودان وتونس وليبيا واليمن والكويت وإيران والعراق والجزائر وفلسطين والأردن ولبنان والمغرب والسعودية وقطر.
التفكير الاستراتيجي في بلاد العرب أمر مهضوم ومظلوم على حد سواء، على الرغم من أهميته القصوى، خصوصا حينما تحيط بالأمم المخاطر، وتكون الاختلافات والتحزبات والتفرقات سمة الموقف، وأحاطت بالأمة كل التحديات من كل جانب، فإن تفكيرا استراتيجيا يعالج هذا الأمر غاية في الأهمية. ومن المهم التأكيد أن صناعة الاستراتيجية تعبر عن ملكاتٍ في التفكير، ورشد في التدبير، ووعي في أصول التغيير، ذلك أن اجتماع هذا المثلث في تكوين البصائر الاستراتيجية أمر في غاية الأهمية. ولكن للأسف الشديد، الفكر الاستراتيجي في بلاد العرب نادر، والمفكرون الاستراتيجيون يعدون على أصابع اليدين، ذلك أنه ليس أي أحد يحسن ذلك التفكير الاستراتيجي، وإنْ يمكنه أن يسهم في ما هو أدنى. والمفكرون الاستراتيجيون، 
كجمال حمدان وحامد ربيع، يُحسنون الربط بين القضايا والمواقف وإنشاء العلاقات والروابط والتفكير الشبكي والمنظومي. هؤلاء لا تهتم بلاد العرب بهم للأسف، حينما لا تتخذ من الاستراتيجيات منصاتٍ لإعمال وعيها وتأسيس عملها. ومن هنا، فإن أحوال الأمة ومشارف الخطر وسيولة الأحداث وحروبا تنشب لا تعرف نهايتها أمور جديرة بأن يجتمع لأجلها بعض هؤلاء الذين يهتمون بشأن الأمة، ويعينون على ضرورة أن يجتمع كل صاحب رؤية استراتيجية في عمل متراكمٍ ووفق آليات تبادل الرؤى والحوار الاستراتيجي، فإن رؤيةً استراتيجية وصياغتها من الأمور المهمة في هذا المقام.
تتعلق مسألة التطورات الاستراتيجية بمثلث اهتمام غاية في الأهمية، ما يمثله من المشروع الاستراتيجي الذي نحمله، والشارع المتلقي لهذا المشروع والرؤية الاستراتيجية، والشرعية لمثل هذه المشروعات، في إطارٍ من القبول الجمعي العام، ما يؤدي إلى بلوغ الأهداف، وتحقيق المصالح. ومن المهم في هذا المقام أن نتعرّف على مجموعة من الخرائط، وجب رسمها، لرفع الواقع من ناحية، والتعرف على مفاصله وإشكالاته من ناحية أخرى، ذلك أن الخرائط التي تتعلق بعالم الإمكانية على سبيل المثال يجب أن تكون واضحةً في الأذهان، فالأمر لا يتعلق بعنترية، لكنه يتعلق بعدة وعتاد، فإن من أهم الخرائط أيضا خرائط القدرات، وهي تخرج من عالم الإمكانية إلى عالم القدرة والمكنة والتمكّن لهذا المقام. وهذه الخرائط التي تتعلق بالقدرات إنما هي التي تستثمر عالم الإمكانية، بما لا يزيد عليه، وتوظيفه في مقامه واستثماره في أوانه. ومن خرائط القدرات لا بد وأن تُبنى خرائط التحالفات، لتؤصل المعنى الذي يتعلق بزيادة القدرة وتعظيم المنافع وتبادلها في الوقت نفسه، فإن تلك التحالفات من أهم الأدوات لمواجهة الخصوم، ضمن صناعة موازين قوى مواتية، تقوم على قواعد من التأثير والفاعلية. ومن أهم الخرائط أيضا أن نتعلم كيف نرصد خرائط المخاطر والتحديات التي تحيط بالأمة في امتدادها الجغرافي، وخرائط الفرص والمنح، وكل ما يتعلق بالمساندة والدعم، وخرائط الاستجابات التي تحقق أفضل تفاعلٍ ممكن، واختيار أفضل البدائل فيما يتعلق بتحقيق الأهداف الكبرى والفاعلية العظمى.
والانتقال من التعرّف على الخرائط وإمكانات الفعل والفاعلية فيها يفرض علينا أن نحدّد مجالات الاهتمام الاستراتيجي الذي يتمثل في "مربع النواة" التي تشكل ميدانا للوعي الاستراتيجي، والعمل بالفاعلية المطلوبة في إحداث التغيير المقصود. وفي هذا الإطار، فإن هذا المربع لمشروع نصنعه ومشاريع نواجهها، أما المشروع الذي نواجهه فلا يزال يتمثل في القضية الاستراتيجية الأولى قضية فلسطين – القدس التي تشكل ميدانا لمواجهة المشروع الصهيوني بكل امتداداته، والتعرف على كل الإمكانات والمكنات لتطويقه وتفكيكه. ومواجهة المشروع الصهيوني من أهم المجالات في العمل الاستراتيجي الفعال. ومن المؤسف حقا أن الإخفاقات في التعامل مع القضية الفلسطينية في كل تطوراتها جعلت مستحيلات إسرائيل ممكنة، وممكنات العرب مستحيلة. وقد مثلت تلك الممارسات عنوانا للهوان والمهانة، وقد آن الأوان أن نعرف الإخفاقات الكبرى التي تتعلق بالقضية الفلسطينية. وفي هذا السياق، يشكل المشروع الأميركي حاضنا للمشروع الصهيوني، ومتبنيا مقولاته الصهيونية. والتماهي بين المشروعين أمر يراه الجميع واضحا، ولا يحتاج لمزيد بيان. هذا هو المشروع الذي نواجهه، فما هي الثلاثة الأخرى التي تشكل في مربع النواة ومجال الاهتمام عناصر مهمة لتلك الاستراتيجية في مشروع نصنعه؟
عنوان المشروع الذي نصنعه هو "مصر الأمانة". ومصر هذه داخل هذه الرؤية الاستراتيجية انما تعبر عن اختلال استراتيجي فادح، حينما يتحيز نظام "3 يوليو" إلى ذلك المشروع الصهيوني. وهذا اختلال محوري يجعل مصر في الطرف المقابل، فتكون ركنا ركينا في مشروع الثورة المضادة، بدلا من أن تكون رافعةً في مشروع النهوض والثورة والتغيير. معنى الأمانة في مصر هو ما يؤكده كثيرون من مفكري بلاد العرب أنه إذا قامت مصر واستوت لنهض العرب جميعا. وقد شكل حدوث هذا الانقلاب على ثورة 25 يناير تأثيرا سلبيا عاما على كل الثورات العربية، واسترداد مصر بالتأكيد على الوعي بضرورة التغيير فيها لتكون في موقعها الاستراتيجي المناسب، ولا تكون في الموضع الخطأ الذي يمكن أن يجر أوخم العواقب على هذه الأمة، من الناحيتين، الاستراتيجية والسياسية.
العنصر الثالث في هذه المعادلة والنقطة الحيوية في مشروع نصنعه إنما يتعلق بتركيا المكانة. 
وصناعة المكانة في تركيا أمر جدير بالاهتمام، خصوصا إذا ما مثلت بمشروعها حالة من حالات التقدم التنموي والمكانة الدولية على حد سواء. تركيا المكانة لا بد وأن تتدبر رؤيتها الاستراتيجية في عمل مهم، يحدث كل ما من شأنه أن يزيد مساحات المكانة في ظل مجال حيوي، يفعِل تلك الرؤية، ويقدم نموذجا مهما للتدبير والتغيير. تركيا المكانة في هذا السياق لا بد أن تحافظ على نفسها فاعلا استراتيجيا يعقد مزيدا من التحالفات، ولا يحاول بكل شكل أن لا يثير مزيدا من الاختلافات والعداءات، وفق قاعدة ذهبية "إذا لم تستطع أن تكتسب حليفا فلا تكتسب خصما". تأتي بعد ذلك استراتيجية خطابٍ ليكتمل مربع مجال الاهتمام، قادرة أن تعبر عن حركة الثورة المقبلة، وتمكين المجتمعات المدنية، والتأكيد على مساحات المقاومة ضمن مشروعٍ يحرك كل فاعليات الأمة وطاقاتها.
غاية الأمر في هذا المقام أن من الأهمية بمكان أن نحمل مشروعاً استراتيجياً، يحقق كل هذه الأمور التي تتعلق بمربع الاهتمام، ما يتطلب عقلا استراتيجيا للأمة، آن الأوان أن نؤكد على أهميته، ليفكر بحجم الإشكالات والتحديات، وبحجم المتطلبات والاستجابات. يستند هذا العقل الاستراتيجي، في جوهره، إلى قاعدة تتعلق بالتيار الرئيسي العام، فيحسن هذا العقل إدارة الصراع، وإدارة الأزمات، وإدارة الفرصة، ما يؤسس لعمل القوى الفاعلة في حركة التغيير، وتحديد كل المجالات الحيوية في مجالات الحركة ومساحات الفاعلية. من مربع الاهتمام إلى حركة الفعل والفاعلية والآليات في إطار الصناعة الاستراتيجية في مقال قادم بإذن الله.
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".