ترامب يترافع عن بن سلمان و"يعفو" عنه!

ترامب يترافع عن بن سلمان و"يعفو" عنه!

23 نوفمبر 2018
+ الخط -
توافقت آراء أغلب الإعلاميين والسياسيين الأميركيين على إدانة البيان الذي أصدره الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، يوم الثلاثاء الماضي، وأعلن فيه "الوقوف مع المملكة العربية السعودية". وأقل ما يمكن أن يقال بحق ذلك البيان أنه مخزٍ، وهو ما دفع الكاتب الأميركي الشهير، ديفيد فريدمان، إلى أن يصف ترامب، في مقاله الأسبوعي في صحيفة نيويورك تايمز، بـ"الأحمق عديم الأخلاق". أما الديبلوماسي الأميركي السابق، آرون ديفيد ميلر، فكتب في موقع سي إن إن، واصفاً بيان ترامب بأنه بمثابة "إصدار عفوٍ" عن وليِّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، وجاء إنقاذاً له من جريمة اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي. ونحا السياناتور الجمهوري، رئيس لجنة العلاقات الخارجية، بوب كوركر، المنحى نفسه، حين غرّد معلقاً على بيان ترامب: "لقد هبط بأمتنا إلى مستوى منخفض جداً". وأضاف: "من حيث الجوهر، ما قاله الرئيس أنه إذا كنت تغدق عليَّ المديح، وتنفق مالا كثيرا في بلدنا، فإننا سنتجاوز عن قتلك الصحافيين، وفعلك أشياء أخرى". وختم كوركر تغريدته بوصف بيان ترامب بأنه جعل البيت الأبيض بمثابة "شركة علاقات عامة" للمملكة.
ما سبق عينة قليلة من كمٍّ كبير من ردود الفعل الأميركية الغاضبة على بيان ترامب، والذي جاء بمثابة مرافعة عن بن سلمان، أو كما وصفه كوركر: "لم يكن في وسع وليِّ العهد كتابة بيان أحسن من هذا البيان". لا أريد أن أخوض كثيراً هنا في تفاصيل البيان، لكنه باختصار هدف إلى تبرير موقفه "عديم الأخلاق"، على حد تعبير فريدمان، من مسألة اغتيال خاشقجي المروّع. يعلم ترامب أن ابن سلمان هو من أمر بعملية الاغتيال، هذا ما قاله تقدير الاستخبارات الأميركية، ولكنه حرص على عدم الظهور بمظهر المبرئ لابن سلمان بشكل مطلق، على 
أساس "أن من المحتمل جداً أن وليَّ العهد كان يعلم بالحدث المأساوي، وربما لم يعلم"، وحرص أيضاً، على أن يُذَكِّرَ بأن الأمر بالنسبة له يتعلق بما يعتبره مصالح أميركا أولاً وأخيراً، أما القيم، فمكانها سلة المهملات. يبدأ البيان بشعار حملة ترامب الانتخابي، وعنوان مقاربة إدارته السياسة الخارجية: أميركا أولاً. ثمَّ يتبع ذلك بعبارة: "العالم مكان خطير". وما يلي ذلك خلط متعمد بين ما تؤديه السعودية من خدمات للولايات المتحدة والدور الذي تلعبه ضمن استراتيجيتها في المنطقة والعالم، وما بين شخص بن سلمان. وكأن السعودية من دون ابن سلمان ستتمرّد على الولايات المتحدة وعلى الدور المرسوم لها!
يعي ترامب تماماً أنه يقوم بذلك الخلط متعمداً. وكثيرون من مستشاريه شرحوا له أن التغيير في ولاية العهد لن يمسّ أبداً المصالح الأميركية. وأوضحوا أن بن سلمان شخص متهوّر، وأن سياساته المتهورة والرعناء في المنطقة تعود بالضرر على الاستراتيجية الأميركية هناك. وبالتالي، تساعد ذرائع ترامب عن أن السعودية في مجابهة التمدّد الإيراني في المنطقة، واحتواء نفوذها، ومحاربة الإرهاب، وتمهيد الطريق لدمج إسرائيل في الفضاء العربي على حساب القضية الفلسطينية، كلها أمور محلَّ شك كبير، لكن ترامب غير معنيٍّ كثيراً بما سبق مجرداً. هناك أمور أخرى أهم تعنيه، تدخل في سياق حساباته السياسية الشخصية، أكثر من حسابات مؤسسة الرئاسة. وبيان ترامب وتصريحاته وتغريداته التالية لا تخفيها، حيث يطلب مزيداً من الأموال السعودية، سواء لشراء الأسلحة، أم الاستثمار في الولايات المتحدة. كما أنه يباهي بأنه أرغم المملكة على تخفيض أسعار النفط عالمياً، بل وطالب بالمزيد! إذن، هو الابتزاز الدنيء بأجلى صوره يمارسه ترامب، ولا يجد ابن سلمان خياراً إلا أن يستجيب، فمصيره معلق بكلمة منه، بعد أن تكاثر ناقدوه ورافضوه أميركياً.
غير أن أوقح ما في بيان ترامب إحالته إلى مزاعم مسؤولين سعوديين أن خاشقجي كان "عدواً للدولة"، وعضواً في الإخوان المسلمين"! صحيح أنه يستدرك سريعاً ليؤكد أن قراره بـ"العفو" عن ابن سلمان ومحاولته إنقاذه "من الجريمة الفظيعة وغير المقبولة"، حسب بيانه، ليس مؤسّساً على هذين الزعمين، إلا أن مجرد إيرادهما يفضح حقيقة انعدام أخلاقه. وماذا لو كان خاشقجي عضواً في جماعة الإخوان المسلمين؟ أيبيح هذا دمه؟ بأي قانون؟ وأي منطق؟ الإخوان المسلمون ليسوا مصنفين على أي قائمة إرهاب أميركية، والقيم الأميركية، التي هي 
كثيراً ما تكون نظرية، لا تسمح بقتلٍ خارج القضاء. وأمثال خاشقجي، حتى لو كان عضواً في "الإخوان"، وهو لم يكن كذلك، لا يمكن أبداً أن يستباح دمه أميركياً، فهو ليس مقاتلاً ولا يلجأ للعنف. ولكن ترامب أوضح حقيقة قصده من إيراد هذين الزعمين السعوديين. خاشقجي، حسب هذا الزعم، لم يكن من "الإخوان المسلمين" فحسب، بل كان عدواً للدولة السعودية. ولفهم الرابط هنا في ذهن ترامب السقيم، علينا أن نتذكّر أنه هو من سبق له أن وصف الإعلام في الولايات المتحدة بأنه "عدو الشعب"، وهو لم يتوقف يوماً عن افتعال معارك مع الإعلام الحر الذي يكفله الدستور الأميركي. ولا ينبغي لأحد أن يشكّ في أنه لو أتيح لترامب أن يقوم بتصفية خصومه في الإعلام، فإنه لن يتردّد، وربما هذه نقيصة يفتقدها أميركياً، وهو قد يكون يحسد بن سلمان، وغيره من الطغاة، عليها.
باختصار، ابن سلمان، الذي ترى فيه جُلُّ مؤسسة الحكم الأميركية، ولي عهد فاسدا ومتهوّرا، يجد حماية من رئيسٍ أميركيٍّ، لا يقل عنه فساداً وتهوّراً، وكلاهما عديم الأخلاق، وينظران إلى الأمور بمنطق التجارة والمقايضة. ولكن، يخطئ بن سلمان إن ظن أن حماية ترامب وحده تكفيه. إن فرصه في تبوّء العرش الآن تعادل إمكانية عدم تمكّنه منه، فمؤسسة الحكم الأميركية ليست على قلب رجل واحد، تماماً كما الحال في المملكة، أين يتربص أمراء كثيرون به، للانقضاض على المُلك، عند غياب الملك سلمان بن عبد العزيز.