العالم كله "يتدخل" بعضُه في بعض

العالم كله "يتدخل" بعضُه في بعض

03 نوفمبر 2018
+ الخط -
قد لا يكون مستغرباً أن تجنح سلطات بلد ما إلى رفض أي رأي مخالف أو مختلف تم نشره عن سياسة ذلك البلد العربي، وتعتبره عن غير وجه حق " تدخلا في شؤونها الداخلية". علماً أن الدول أو الحكومات هي التي في وسعها التدخل في شؤون الدول الأخرى، وكذلك المنظمات المسلحة العابرة للحدود، وبدرجةٍ أقل المجموعات السياسية المنظمة، أما كاتب الرأي، هنا وهناك في العالم، فإنه يقوم بأداء واجبه بمحاولة فهم ما يجري، وتحليل مجرى الأحداث وإبداء رأي في المحصلة. وكذلك الأمر بما يتعلق بالمنظمات ذات الطابع الحقوقي، مثل منظمة العفو الدولية (أمنستي) أو منظمة مراقبة حقوق الإنسان (هيومان رايتس ووتش)، ثم الهيئات والمنظمات الدولية التي تتبع للأمم المتحدة. ثم منظمات دولية مهنية، مثل مراسلون بلاد حدود ونادي القلم الدولي وغيرهما.
أما الأكثر إثارة للاستغراب فهو أن يتصايح أفرادٌ على منصات التواصل الاجتماعي، ويتراشقوا باتهاماتٍ ضد أحدهم بتدخل مزعوم، أو أن يتبادلوا الاتهامات بالتدخل لمجرد إبداء الرأي. وفي الوقت نفسه، فإن المشاحنات على هذه المنصّات قد تندلع لأسباب أخرى، منها البذاءة والشتائم السوقية، وهذه تجافي مبدأ التعبير عن الرأي.
وسواء تعلق الأمر بحكوماتٍ أو أفراد، فإن احتساب الإفضاء برأي تدخلا في شؤون داخلية
يعكس رؤية عقلية قاصرة ترى في مجرد الاهتمام تدخلاً، وهي كذلك رؤية انعزالية عن العالم، تتنافى مع طبيعة الحياة الواقعية، ومع ثقافة العصر، فالتعبير عن الرأي حق أساسي من حقوق الإنسان كفلته مواثيق الأمم المتحدة، ولا يتعارض مع الشرائع، وهو سمة رئيسية للحياة الديمقراطية وللمجتمعات المتقدمة، ولتلك المجتمعات الطامحة إلى التقدّم. ومنذ مطلع الألفية الثالثة على الأقل، أصبح العالم أكثر تواصلاً، وتسوده اهتماماتٌ إقليمية أو دولية مشتركة، تتجاور مع الاهتمامات المحلية وتتفاعل معها. وإلى جانب التواصل، هناك اعتمادية متبادلة، تميل بالطبع إلى مصلحة البلدان الأكثر تطورا، على أن هذه البلدان تعتمد، في الوقت ذاته، على الدول الأخرى الأقل تقدّما كأسواقٍ لمنتجاتها، فضلاًعن الاعتماد على ثرواتٍ طبيعيةٍ، تنتجها تلك الدول، كالنفط والغاز والمعادن.
ويعتبر على سبيل المثال انعقاد الجمعية للأمم المتحدة في سبتمبر/ أيلول من كل عام مناسبة لتدبيج الخطابات وإجراء الحوارات وإطلاق التصريحات حول شؤون العالم المختلفة، من زعماء العالم ومسؤوليه في شؤون عالمنا كافة، من غير أن يقال إن التعبير عن الآراء وتداولها يمُثل تدخلاً في شؤونٍ داخلية لدولةٍ أو دول ما.
وقد قامت وسائل الإعلام التقليدية والحديثة، واتسع نطاقها، استناداً إلى مبدأ تداول المعلومات والآراء، وإفساح المجال للتعليقات أيا كان مصدرها، فالعالم أصبح حقا واحداً، من دون إلغاء الفروق بين مكوناته. وحين يتعلق الأمر بإقليم أو بمنطقة ما، تبدو الاهتمامات متقاربة بين دول ذلك الإقليم ومجتمعاته، كما هو الحال في منطقتنا (الشرق الأوسط). فيما تتيح الصروح الأكاديمية، الجامعات والمعاهد، فرصةً لدراسة دول العالم ومجتمعاته ومكوناته قديماً وحديثا، من جميع الجوانب، ولا يُحتسب ذلك، من قريب أو بعيد، تدخلاً في شرون الغير، بل من صميم البحث العلمي.
ومن المفارقة حقا أننا في عالمنا العربي، بينما نتشبث بهويتنا القومية، لفظاً وقولاً ومسميات، وبينما يَنظر إلينا العالم شعوبا لأمة واحدة، فإنه يطيب لنفرٍ منا توجيه الاتهامات بالتدخل في شؤون هذا البلد أو ذاك، وذلك حين يكون الرأي نقدياً أو غير موافق للهوى. أما حين يظهر الرأي مؤيداً وبحماسة مفرطة، فإنه لا يُعد تدخلاً أبداً، بل "يعكس الخلق العربي الأصيل"، أو "الروح القومية المتوثبة"! ومن المثير للدهشة ظهور عصبياتٍ وطنيةٍ لدى أفراد أو مجموعات أقرب ما تكون إلى عصبياتٍ قبلية، وذلك في الرد على معترضين أو أصحاب آراء مستقلة. وهذه سابقةٌ على ظهور اليمين الشعبوي المتطرف في الغرب، الذي ينافح بالوطنيات والقوميات والأعراق النقية. وبينما تتجه سهام هؤلاء إلى أغراب ينتسبون إلى حضاراتٍ أخرى، فإن سهام عصبيات العرب تتجه إلى أبناء جلدتهم من العرب.
وعلى النحو نفسه، تجري ردود الأفعال، حين يتعلق الأمر بدولٍ ترفع راية الانتماء إلى "أمة الإسلام"، ويقوم خطابها الإعلامي والسياسي على مخاطبة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. على أن أحداً من المسلمين (من أمة المليار نسمة) لا يحق له إبداء رأيٍ مستقلٍّ في سياسات تلك الدولة المسلمة (التي تزعم نظريا تمثيلها له، لصاحب الرأي)، ويعتبر رأيه تدخلاً في شؤون داخلية صرفة، ويتم طمس هويته الإسلامية، فينسب الى جماعته الوطنية فحسب، أو إلى فئة مارقين، ورهط متربصين، وسوى ذلك من نعوت. وهو ما يحدث، على سبيل المثال، في قضية الشهيد الكاتب المستقل جمال خاشقجي.
هناك دول قليلة في العالم تعيش في عزلة شبه تامة، أو انكفاءٍ متعمّد، وتدفع ثمن ذلك في تأخر 
نموها وضعف إنتاجيتها وانخفاض مستوى معيشة أبنائها، بينما تمضي حياة بقية الدول في أربع رياح الأرض، في تواصلٍ حيٍّ مع العالم، تتأثر به، وتحاول التأثير به، وتستظل بقيم كونية عابرة للقارات، مثل حقوق الإنسان وحق تقرير مصير الشعوب والحكم الرشيد وإنصاف النساء وحقوق الطفولة وكبار السن، والقضاء العادل المستقل عن السلطة التنفيذية والتمثيل الشعبي على مختلف المستويات، ومكافحة الإرهاب والتلوث والحق في التعليم والسكن والتنقل، واحترام المعتقدات الدينية والسياسية ونبذ العنصرية. وإلى هذه القيم، باتت هناك اهتمامات مشتركة تخترق العالم، تشمل مجالات الرياضة والغناء والموسيقى والسينما، والسلع الاستهلاكية المختلفة من سيارات وأجهزة إلكترونية وأزياء، وكثير منها يتم الاطلاع عليه أولاً بأول، والتزوّد به من خلال تسوّق إلكتروني.
والحال أن المعلومات والآراء يتم تداولها أيضا بالكيفية نفسها، وعلى مدار الساعة، وبمختلف اللغات، وينعكس ذلك على الاقتصاد وعلى الاستيراد والتصدير، وعلى حركة السياحة، وصولاً إلى الصورة العامة لمجتمع أو بلد ما، وتتدخل خلال ذلك المفاهيم والأذواق والانطباعات وردود الفعل حيال أي تطور أو حدثٍ يقع في أي بلد.
في هذه الحقبة، العالم كله "يتدخل" بعضه في بعض، لأن العالم بات متداخلاً، وهذه إحدى وقائع العصر وحقائقه الجديدة، ولا يغفل عنها إلا الغافلون..