داعشية قومية و"علمانية"

داعشية قومية و"علمانية"

20 اغسطس 2016
+ الخط -
برز تنظيم داعش باعتباره الأكثر انحطاطاً ووحشيةً باستهدافه كرامة البشر وحياتهم، وبعدائه المقيت للنساء وتحقيرهن، وبمناصبته العداء للطوائف والأعراق المختلفة والشعوب الأخرى التي لا تدين (بما يزعمه هو) بصحيح الإيمان. على أن حربه على أبناء طائفته لم تكن أقل وحشيةً، فقد ارتكب جرائم قتل جماعية أودت بآلاف من المدنيين المسلمين السنة في العراق، وبأعداد كبيرة أخرى في سورية في الرقة ودير الزور، وفي كل مكان تطأه أقدامه. بعدائه البدائي للغرب واستهدافه مدناً وعواصم غربية، وبقتله مختطفين غربيين باستعراضية مقزّزة، فقد ثارت مخاوف الغرب من تفشي هذه الظاهرة، وتسللها إلى مجتمعاته، وأصبحت محاربة هذا التنظيم من أوجب الواجبات على الأجندة الغربية. ومنذ أكثر من عامين، تشكل تحالف دولي يقتصر عمله على شن حملات عسكرية جوية على التنظيم. كما ساند الغرب، وبالذات أميركا، حملة تطهير مدينة كوباني (عين العرب) من هذا التنظيم، وأخيراً، نعمت مدينة منبج في شمال سورية بتحريرها من التنظيم على يد قوةٍ كرديةٍ مدعومةٍ من أميركا وروسيا.
وقد التقت في سورية والعراق قوى واسعة، يجمعها السعي إلى التخلص من هذا التنظيم واستئصال شأفته، بعدما استولى على الموصل، ثاني مدن العراق، في يونيو/ حزيران عام 2014.
باتت محاربة داعش شرطاً شارطاً لكل طرف سياسي، للبرهنة على جدارته وأهليته للثقة. وكما التقت قوى محلية على هذا الهدف، كذلك التقت قوى إقليمية ودولية، والتقارب التركي الروسي، كما الإيراني التركي، يشتمل على مضاعفة العمل على مناهضة هذا التنظيم.
لا بد من الإشارة، هنا، إلى أن داعش، إذ أسهم إسهاماً كبيراً في نشر ثقافة التوحش، وازدراء كرامة الأفراد والجماعات وحقوقها الأولية في الحياة، إلا أن هذا التنظيم الهجين استفاد من بيئةٍ كان العنف فيها ضارباً، وقد بلغ العنف ضد المدنيين مراحل من التوحش قبل صعود التنظيم في سورية واحتلاله مدينة الرقة، من أجل تكريس سلوك العنف المطلق الذي اعتمده أسلوباً لعمله، والفرق أن داعش يقوم بما يقوم به بطريقةٍ استعراضيةٍ بالغة الفجاجة.
وعلى الرغم من أن التنظيم لاقى ضرباتٍ موجعةً في مدينة منبج، وقبلها في الفلوجة، إلا أن
محاربته باتت الشعار السياسي الأكثر رواجاً واستخداماً من أطراف مختلفة. ويمنح كثيرون أنفسهم ألقاب الجدارة الوطنية والسياسية لمجرد اعتناقهم هذا الشعار، حتى لو كانوا لا يشتبكون مع داعش إلا على أضيق نطاق، كحال حزب الله الذي يخوض حرباً طائفية تناحرية ضد أكثرية السوريين. ونستذكر أن التدخل الروسي في سورية، قبل نحو عام، اتخذ من محاربة داعش عنواناً له.
والحال أنه جرى استثمار شعار محاربة داعش إلى أقصى حد. حتى أنه في وسع من شاء أن يكون، في هذه الظروف، عنصرياً وطائفياً مثلاً، ويكفيه رفع لواء محاربة داعش، حتى تكون خطاياه مغفورةً أمام نفسه، وأمام الآخرين، وحتى يجيز لنفسه اقتراف ما يشاء من فظائع، ما دام يعتنق مبدأ الحرب على داعش. أدى بروز هذا التنظيم الى إشاعة مناخٍ مسمومٍ يصح وصفه بالداعشية، تشمل بعض من يرفعون لواء مكافحة داعش.
لا يرى المرء في الاستهداف المنهجي واليومي للمدنيين السوريين إلا ضرباً من الداعشية المقنّعة. استهداف كل المشافي في حلب ومنطقتها (وقد تم إخراج 26 مشفى وعيادة من الخدمة، حسب تقرير أخير للأمم المتحدة) لا يعدو أن يكون ممارسةً داعشية، لا تنتمي، بأي وجه، إلى القرن الحادي والعشرين. محاصرة المدنيين وقتلهم بالتجويع المتعمد، كما حدث في مضايا وبعض أحياء حمص، هو من أشكال الداعشية التي لا تعبأ بكرامة الإنسان، وبحقه البسيط والجوهري في الحياة وفي الطعام والاستشفاء. استخدام قنابل النابالم والقنابل العنقودية والغازات السامة ضد المدنيين، إن لم يكن ممارسةً داعشية فبماذا يمكن أن تصنف.. ممارسة نازية وفاشية؟ الأفضل أن تصنف هذه الممارسات المتوحشة تصنيفاً يتفق مع المستجدّات في منطقتنا، وهو ظهور داعش.
الداعشية هي الشكل الأعلى للإرهاب. والإرهاب هو استهداف المدنيين بصورة متعمّدة وعشوائية ومتكرّرة، من أجل تحقيق غاياتٍ سياسية وعسكرية. وإذ يُمنى التنظيم البربري بتراجع وهزائم متراكمة، فإن الحاجة تستدعي التحذير من خطر الداعشية التي تنهج النهج نفسه الذي يعتنقه التنظيم البربري، ولكن على نطاق أوسع وأخطر، ومع أكبر قدر من التدليس والتضليل والتلاعب بالوقائع والحقائق، من قبيل الحديث بلا توقفٍ عن مكافحة الإرهاب ومناوأة داعش، فيما الذي يتم واقعاً وفعلاً هو مكافحة الأطفال والنساء وهدم البيوت فوق رؤوسهم.
هناك حاجة وجودية لمواصلة الكفاح ضد داعش، وإزالة خطره. ولكن، ماذا عن الداعشية التي تستخدم الطائرات والبوارج والقنابل والصواريخ لتدمير إدلب وسراقب وأتارب وحلب، وإفناء كل ما فيها من مظاهر الحياة؟ ماذا عن التطهير الديني والعرقي والمناطقي، هل تتم مواصلة السكوت عنه؟ بينما تتحدّث موسكو، مراراً وتكراراً، عن مباحثاتٍ مع واشنطن لترتيب وقف اطلاق النار، فإن إطلاق النيران لا يتوقف من جانب موسكو، ويجري تخيير أبناء حلب
الشرقية بين مغادرة بيوتهم ومدينتهم وتدمير مساكنهم فوق بيوتهم، وقد دُمّر ما لا يحصى من بيوت وبنايات. بينما الخيار الأصح هو تثبيت وقف إطلاق النار، ورفع الحصار عن كل حلب شرقها وغربها، وإدخال المواد الإنسانية وإعادة عمليات الإغاثة التي ينفذها الصليب الأحمر.
استضعاف المدنيين والحرب عليهم، وعلى المنشآت المدنية، ثقافة داعشية، وابتعاث أسوأ ما في التاريخ البشري من صراعاتٍ مقيتة، يتم استخدام المدنيين وقوداً وهدفاً لها. وقد سبق لمسؤولين في الأمم المتحدة أن وصفوا ما يتعرّض له المدنيون السوريون بأنها ممارساتٌ تنتمي الى القرون الوسطى، وبما يجعلها وثيقةَ الصلة وشديدة الشبه بممارسات داعش القروسطية.
أجل، هناك داعشية مبثوثة في ثقافةٍ سائدةٍ، وفي مناهج دراسيةٍ، تقوم على كراهية الآخر وشيطنته وتكفيره وتسويغ "الجهاد" ضده. وهو ما يستحق إعادة نظر فورية وشاملة في هذه المناهج المتحجرة التي تسيء إلى الدين وإلى المسلمين، وتهيئ التربة لمناخ شديد الأصولية والتطرف، غير أن مدار الحديث، هنا، هو عن داعشيةٍ أخرى قومية و"علمانية". إنها الداعشية السياسية والحربية التي يسوّغ أصحابها لأنفسهم تدمير مدنٍ وحواضر تاريخية مأهولة وإحراقها، كما ذكرت، أخيراً، منظمة هيومان رايتس ووتش في وصفها ما تتعرض له حلب وإدلب، وكل هذه الفظائع تتم تحت شعار مكافحة الإرهاب، الذي يردّده مسؤولون إيرانيون وروس بصورة آلية على مدار الساعة.
في السياق نفسه، فإن جمهرة قوميين وعلمانيين عربا لا يبالون بحرب إبادةٍ يتعرّض لها شعبٌ شقيق، ويعتبرون أن وجود ما يسمونها الدولة واستمرارها يتقدّم في الأهمية على حق الشعب في الحياة والوجود. هؤلاء داعشيون على طريقتهم، فهم يعبدون مفاهيم مجرّدة متعالية تجافي الواقع، وتشكل ذخيرةً دعاوية وتسويغية لحرب الإبادة، بما يجعلهم داعشيين.. فمقابل مطلب الخلافة الذي يرفعه التنظيم الإرهابي، والذي يسوّغ له في نظره استئصال البشر، فإن هؤلاء يرفعون مطلب الدولة، حتى لو لم يبق شعبٌ تحظى الدولة بالولاية عليه. علماً أن مفهوم الدولة عند هؤلاء يتمثل في السلطة وأجهزتها وبعض خدماتها الإدارية، ولا يتجسّد في الأبنية الحقوقية والدستورية، وما ينبثق عنها من مؤسساتٍ تمثيليةٍ، ومن فصل بين السلطات وسيادة للقانون.
الداعشية المقنعة والمتسربلة بالقومية والعلمانية تتفشى في بعض الأوساط المثقفة، وعلى نحوٍ لا يتورّع بعض هؤلاء عن المجاهرة بالعداء السافر للشعوب التي تعرقل الطغيان "التقدمي"، مع ترحيبهم بالغزو الإيراني والتدخل الروسي الذي يحرق الأخضر واليابس، من أجل تأديب الشعوب.