قضايانا والعالم الحديث

قضايانا والعالم الحديث

19 نوفمبر 2018
+ الخط -
عملت اتجاهات ما بعد الحداثة الغربية على اقتحام المناطق التي كان العقل يرذلها، كالجنون والسجن والجنس، وهي بحثٌ في المناطق الهامشية، فقد جاءت بعدما استنفذ بحث المناطق المركزية لعمله، وأخذت توسع من دائرته في اللامعقول. وبصرف النظر، سواء كان المرء مع هذا العمل أم لا، فإنه يملك مشروعيةً في سياق الثقافة والمجتمع الغربيين، وما وصلا إليه من تطور، فهو لا يبحث في العلمانية والديمقراطية والدولة، لأنها مؤسسات راسخة، لها تاريخها المستقر، وتملك كل أسباب المشروعية، فهي ليست مهدّدة بالزوال، لذلك يتم توسيع عمل العقل في مناطق أخرى، كالجنون والجنس والسجن وعلاقتها بهذه القيم، والخلل الذي ولده تاريخ استقرارها مع الهامشي في المجتمع، ومن الهامشي يتم استنتاج قصور العقل عن العمل، في تفسير القضايا التي يطرحها الهامشي. لكن في المجتمع العربي لم تحسم القضايا المركزية بعد، وهي ليست معطىً غير ثابت فحسب، بل هي أشكالٌ مشوهةٌ تتعايش مع أنماط الفكر التقليدي، هذا ما يجعلها غير مستقرّة، وتحتاج إلى العمل الطويل عليها، من أجل تحويلها إلى شيء راسخ ومستقر، لم تكن المشكلة التي ولدت مطالب الحرية وثوراتها في العالم العربي، على سبيل المثال، هي استبداد الديمقراطية، بل بالاستبداد السلطوي العربي الحقيقي العاري، أي قبل ديمقراطي، وليست في السلطة المجرّدة للدولة التي تفرض سلطانها من خلال خطابات سلطوية، إنما في السلطة المشخصنة للدولة العربية، ومصادرتها المجتمع المدني.
من هنا، وبعد الفشل الذي منيت به الثورات العربية، والتي كشف عمق تخلف مجتمعاتنا وعدم حداثتها، يحب العودة إلى العمل على القضايا المركزية للحداثة، وليس في الهامشي. بغير ذلك، تكون الكتابة خارج الموضوع. طالما اختار الكاتب ألا يقيم علاقةً مع السياق القائم للثقافة 
العربية. وهذا ما ينطبق عليه قول هشام شرابي "كثيرا ما ينسى المثقفون العلمانيون تجربتهم الذاتية في كتاباتهم، فتظهر وكأنها أبحاثٌ يقوم بها باحثون أجانب تتصف بالتجريد والاغتراب الأكاديمي. ينطوي على هذا الموقف نتائج في غاية الأهمية، إذ أن شعارية الذات من موقع الآخر وبأسلوبه (موقع الباحث الأجنبي وأسلوبه) تؤدي بالضرورة إلى تبعية فكرية يصعب التغلب عليها". لذلك، ما هو طبيعي في سياق يكون شاذّا في سياق آخر، فعمل ما بعد الحداثة يتمثل في مواقع نقص الحداثة المتطورة، وهي تعبر عن نفسها من خلال موقفٍ متشكّكٍ ينبثق عن أوضاع مجتمع الرأسمالية المتقدمة التي أخذت تعيد النظر في أنظمتها. ويقوم هذا الموقف على التشكيك في التراث الفكري للقرن التاسع عشر، ممثلا بالحركة النقدية البنيوية وما بعد البنيوية والنقد التفكيكي، ونقدها الجذري للعلوم الاجتماعية والإنسانية ونظرية المعرفة. وفي هذا السياق، يمكن الحديث عن عتمة الأنوار. لكن الحداثة في التجربة العربية أخذت الشكل المشوّه، وهي تعلن بوضوح عن العلاقات التقليدية والاستبدادية، وهي واضحة وضوح الشمس، فهي ما قبل حديثة أصلا. لذلك لا نحتاج إلى حفر لإظهار تواريها، فنحن نراها في كل مكان.
ما يصلح في سياقٍ لا يصلح في آخر، لأن كل مصطلح يولد في سياق، ويأخذ دلالاته منه، وهذا ما ينطبق على كل المصطلحات، بما فيها "ما بعد الحداثة"، كما أن الكتابة، أية كتابة ومهما كانت مجرّدة ومتعالية وحيادية، فهي تقيم علاقة انعكاسٍ مع السياق الذي تظهر فيه. ففي وقتٍ أصبحت فيه الحداثة واقعا منجزا ونهائيا ومفتوحا، فتحت الآفاق لما بعدها، فمعظم تجليات ما بعد الحداثة تنبثق ردود فعل على الحداثة الراسخة، فليست ما بعد الحداثة كلمة أخرى، تستخدم لوصف أسلوب خاص، إنها إضافة إلى ذلك كلمة تنطوي على مفهوم التمرحل الذي تكون مهمته منصبةً على ربط بروز سماتٍ شكلية في الثقافة، بروز نمط جديد من الحياة الاجتماعية ونظام اقتصادي جديد، بما يعرف، غالبا، بالمجتمع ما بعد الصناعي والاستهلاكي.
أين نحن العرب من ذلك كله؟ بالطبع، ليس لدينا الخيار أن نرفض أو نقبل الحداثة، فليس هناك من طريق آخر نستطيع أن نسلكه. لذلك تفرض الحداثة نفسها نموذجا عالميا، ومنذ اصطدمنا بالغرب، عبر تجربة الاستعمار، أخذت الحداثة تشقّ طريقها في المجتمع العربي بطرق مختلفة، منها الفرض ومنها النقل. هكذا وجد المجتمع العربي نفسه أمام عملية "تحديث" كولونيالي 
خارجي، ما جعل تجربته تأخذ طابعا مختلفا عن التجربة الأوروبية. لأنها ولدت في سياق التبعية، أخذت طابعا مشوّها، باستيراد الأشكال الحداثية من لباس ومأكل وصناعات جاهزة، وأبقت القيم التي تقوم عليها الحداثة خارج دائرة التداول، فتجربة الحداثة العربية تقوم على دفع خارجي، يؤثر في التطور الداخلي الذاتي، فيتخذ شكلا غير ناضج. وهذا الشكل المشوّه ناتج ليس عن عدم استعداد البنى الداخلية فحسب، بل وعن تأثير العامل الخارجي الذي يشكل إعاقةً متى جرت العملية ضمن إطار التبعية والخضوع، كان هذا وليد أشكال التطور المتفاوتة بين أوروبا وخارجها، ففيها أخذت الحداثة طابعا ذاتيا وأصيلا. وفي ظل الثقافات الأخرى، جرى التحديث في ظل أوضاع تبعيةٍ أدت إلى حداثة مشوهة وزائفة.
وهذا الدخول للحداثة على العالم العربي لم يخترق طبقاته السميكة المتراكمة تاريخيا، فالبنى التقليدية بقيت راسخةً في المجتمع تحت الأشكال الحديثة، ففي وقتٍ تم استيراد منتجات الحداثة على مستوى الصناعات المنجزة للاستهلاك في العالم، تم رفض مفاهيم الحداثة وقيمها ومبادئها العقلية، فالقطيعة مع الماضي التي صنعت المجتمع الحديث تعثرت في التجربة العربية، فالعقل على مستوى المعرفة ما زال أسير البنى الأسطورية المغلقة، ولم يملك أدواته النقدية، وتحويل هذا النقد إلى عائدات مجتمعية. ما زالت السلطة مشخصة، والعلاقات الاجتماعية عمودية لا أفقية، والانتماءات الاجتماعية أولية طائفية عشائرية، ولم تصل إلى علاقات المواطنة. ويجعل ذلك كله ممارسة المجتمع متأخرة بالنسبة للمجتمعات الأخرى، وبالنسبة إلى المجتمع ذاته، إذا رغب في تجاوز حالة البقاء في مؤخرة الركب.
إذا صحّ استنتاج هشام شرابي أن المجتمع العربي يعاني انفصاما حضاريا تجاه خياراته التاريخية، وفي ظل هذا الانفصام، تتعايش التقليدية وأشكال الحداثة، بالقدر نفسه الذي يغيب فيه التقليدي، وتغيب الحداثة الحقة، فإن ما يحتاجه العالم العربي الذي يرزح تحت مجموعة واسعة من القيم والمفاهيم القبل حديثة، هو الحداثة الحقة وامتلاك منجزاتها. أما الانتقال إلى "ما بعد الحداثة" للإجابة على الأسئلة المطروحة على الواقع العربي، ما هو إلا توغل في تشويه حداثةٍ مشوهةٍ أصلا.
D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.